الإعلام وإدارة أجندة الأولويات الكبرى

03 مارس 2015
+ الخط -

تهتم بحوث ترتيب الأولويات في وسائل الاتصال الجماهيري، أو ما يعرف بـ "نظرية وضع الأجندة"، بدراسة العلاقة التبادلية بين وسائل الإعلام والجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل في تحديد أولويات القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهم المجتمع، وتكون محلاً لاهتمام قطاعات عريضة من مكوناته.

وتعود الأصول النظرية لدراسات "وضع الأجندة" (أو ترتيب الأولويات) إلى ما كتبه والتر ليبمان عام 1922 عن "دور وسائل الإعلام في إيجاد الصلة بين الأحداث التي تقع في العالم الخارجي والصور التي تنشأ في أذهاننا عن هذه الأحداث"، في كتابه "الرأي العام" الذي جاء فيه أن "وسائل الإعلام تساعد في بناء الصور الذهنية لدى الجماهير، وفي أحيانٍ كثيرة، تقدم هذه الوسائل بيئات زائفة في عقول الجماهير، وتعمل وسائل الإعلام على تكوين الرأي العام من خلال تقديم القضايا التي تهم المجتمع".

وتفترض "نظرية الأجندة" أن وسائل الإعلام لا تستطيع أن تقدم جميع الموضوعات والقضايا التي تقع في المجتمع، وإنما يختار القائمون عليها موضوعات يتم التركيز عليها بشدة، والتحكم في طبيعتها ومحتواها. وتثير هذه الموضوعات اهتمام الناس تدريجياً، وتجعلهم يدركونها ويفكرون فيها. وبالتالي، تمثل هذه الموضوعات لدى الجماهير أهمية أكبر نسبياً عن الموضوعات التي لا تطرحها وسائل الإعلام. وتتأثر عملية ترتيب الأولويات بعدة عوامل ومتغيرات منها:

الاتصال الشخصي، وله تأثير كبير في هذه العملية، فهو يمكن أن يدعم أو ينافس وسائل الاعلام في وضع أجندة الجمهور، فالعمليات الاجتماعية تؤثر أيضا على أحكام الجمهور حول أهمية قضية أو شخص ما. كما أن الاتصال الشخصي يعزز تأثير أجندة وسائل الإعلام حول القضايا التي تتم تغطيتها بتوسع، بينما يمكن أن ينافس أجندة وسائل الإعلام فيما يتعلق بالقضايا التي تمت تغطيتها بدرجة أقل.

درجة التجانس التي يتسم بها المجتمع، فحيث ترتفع درجة التجانس، يزداد الاتصال الشخصي، بحيث يصبح منافساً لوسائل الإعلام في وضع أجندة الجمهور، أو مساندتها حسب أهمية الوقائع والأحداث في أجندة المجتمع المحلي المحدود، أو الجماعات المتجانسة.

طبيعة القضية ومدى اقترابها أو ابتعادها عن الخبرة المباشرة للجماعات أو المجتمعات، فكلما كانت القضية قريبة من الخبرة المباشرة للجمهور، انخفضت قدرة وسائل الإعلام على ترتيب أجندة الجمهور في هذه القضايا، بينما في القضايا البعيدة عن الخبرة المباشرة، تنجح وسائل الإعلام في التأثير على أجندة الجمهور.

إلا أن هذه النظرية تثير إشكاليات عديدة حول طبيعة التباين والاختلاف بين صور الترتيب (الأجندات) التي تشملها، مثل أجندات الأفراد أو الجماعات أو أجندات المؤسسات مثل الأحزاب أو الحكومات، والتأثيرات التي تتم على عملية وضع الأجندة في كل حالة، مثل تأثير الاتصال الشخصي، أو تأثير السياسيين وصانعي القرار. ومن ناحية ثانية، عدم تحديد مستوى النية أو العمد أو الهدف الخاص بوسائل الاعلام من ترتيب الأولويات، وأهداف هذا الترتيب ومعاييره. ومن ناحية ثالثة، الشك في نقطة البداية، وما إذا كانت تبدأ بواسطة وسائل الإعلام أو بالجمهور واحتياجاته الأساسية، أم بواسطة مؤسسات الصفوة التي تعمل مصدراً لوسائل الإعلام.

في إطار هذه الإشكاليات النظرية، كان لوسائل الإعلام العربية والأجنبية دور حاسم في الأسابيع القليلة التي مرت من عام 2015، من حيث إعادة ترتيب أولويات المشاهد العربي وقضاياه الرئيسة، فأصبحت القضايا الأساسية، من وجهة النظر الإعلامية، هي، الموجات الباردة التي أصابت شرق المتوسط، وأطلق عليها مسميات "هدى" و"زينة"، وكذلك الحادث الذي تعرضت له صحيفة فرنسية تسيء للإسلام والنبي محمد، وكذلك حادث القتل الذي تعرض له الطيار الأردني معاذ الكساسبة، على أيدي مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية حرقاً، ثم الإعلان عن مقتل أكثر من عشرين مصرياً في ليبيا.

هذا في الوقت الذي تراجعت فيه القضايا الرئيسة التي تشغل المنطقة، وتشتعل أحداثها ما بين عمليات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو تطورات الأوضاع الميدانية للثورة في سورية، وكذلك تطورات الحراك الميداني في مصر، والتحولات الكبيرة في الداخل السعودي، بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتطورات الأوضاع في اليمن وليبيا والبحرين.

ومع هيمنة الوسائل الإعلامية الكبرى على تحديد وتشكيل أجندة الأولويات، تبرز سمة التمييز في المعالجة، حسب الأطراف التي تقف خلف القضايا التي تتم معالجتها، والجهات المحسوبة عليها، إلى درجة دفعت بعضهم إلى القول إن تحديد الأجندات الإعلامية وترتيب أولوياتها أصبح يرتبط، في جانب مهم منه، بالأجهزة الأمنية، وخصوصاً المخابراتية للقوى الفاعلة في المنظومتين الدولية والإقليمية، ما يعني التشكيك في مصداقية وسائل الإعلام ونزاهتها وشفافيتها، وما تقدمه من تغطيات، وما تطرحه من معالجات، وما تتضمنه من رسائل ومضامين، تخدم، بالدرجة الأولى، مصالح الأجهزة النافذة التي تقف خلفها، على حساب قيم أخلاقية ومعايير مهنية وموضوعية كثيرة، يجب أن تتسم بها الممارسة الإعلامية، حتى تحافظ هذه المؤسسات على استقلاليتها، إن كانت تسعى إلى هذه الاستقلالية، في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة، وتنال ليس فقط من استقلالية وسائل الإعلام، لكنها تنال من استقلالية نظم سياسية كثيرة قائمة، بل وتُهدد استقلالية وسيادة الدول ذاتها.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).