14 نوفمبر 2024
الأنظمة العربية أمام الحائط
فاجأت الاحتجاجات اللبنانية الطبقة السياسية، وأربكت حساباتها الداخلية والإقليمية. وبدا أن البنية الطائفية لتوزيع السلطة ترتجّ تحت وقعِ هذه الاحتجاجات غير المسبوقة، في بلدٍ نجح فيه أمراء الطوائف في إيجاد دينامية موازية للصراع الاجتماعي، غذّتها التمايزات الطائفية والمذهبية، ورعتْها إلى أن صارت بديلا عن الحياة السياسية التي يُفترض أنها تنهض على التنافسية والتدافع بعيدا عن المحاصصة الطائفية.
نجحت الطبقة السياسية اللبنانية، طوال العقود الثلاثة التي أعقبت اتفاق الطائف (1989)، في توظيف خوف اللبنانيين من عودة شبح الحرب الأهلية في الصراع السياسي، والذي بدل أن يُوجّه صوب إعادة بناء الوطنية اللبنانية وانتشالها من ربقة الطائفية، أصبح آليةً لإدارة هذه البنية الطائفية وفق توافقاتٍ ظلت، بشكلٍ أو بآخر، على صلةٍ بتقاطبات الإقليم، ما فتح أمام القوى الإقليمية (السعودية، إيران، سورية..) دروبا واسعةً للتحكّم في المشهد اللبناني.
لم تُفلح الحكومات المتعاقبة في إقرار برامج إصلاحية قادرة على تحسين الواقع الاجتماعي والمعيشي للبنانيين، وجاءت الاحتجاجات الحالية لتعيد سؤال السياسة في لبنان إلى الواجهة، ليس لأنه يحيل، بالضرورة، على التوازنات الطائفية المعلومة، ولكن لأنه عنوانُ واقع اجتماعي مُزرٍ يتجلّى في تدهور الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار، وانهيار العملة، وتردّي الخدمات العامة، وتزايد نسب الفقر والبطالة، واستشراء الفساد في مؤسسات الدولة. وشكّلت الضرائب التي كانت حكومة سعد الحريري تنوي إقرارها النقطةَ التي أفاضت الكأس، لا سيما في ظل ما تسوّقه تقارير دولية متواترة بشأن حجم الأموال العمومية التي نُهبت في لبنان، هذا في وقتٍ تُصنّف فيه المؤشرات ذات الصلة البلد على حافّة الانهيار الاقتصادي.
وربما لا تزيّد في القول إن الحراك اللبناني تحولٌ نوعيٌّ في السياسة اللبنانية، في ضوء التجاوز المدهش من المتظاهرين انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، وتبنّيهم خطابا وطنيا ومدنيا، الشيء الذي يمكن اعتباره إدانةً شعبيةً غير معلنة للنظام الطائفي الذي حكم لبنان منذ الميثاق الوطني (1943). ومعلومٌ أن الأنظمة الاجتماعية التقليدية التي تتغذّى على الانتماءات القبلية والعشائرية والدينية والطائفية تفرز دينامياتٍ مضادّة للبناء الوطني، فتُعطّل التنمية وتكرّس التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا، يغدو هذا الحراك تعبيرا دالا عن رفض اللبنانيين، بمختلف مكوناتهم، البنية الطائفية بكل امتداداتها داخل الدولة والمجتمع.
ولعل حرص الطبقة السياسية اللبنانية على حماية مصالحها ومكاسبها التي استخلصتها من هذه البنية جعلها لا تخرج عمّا راكمته الأنظمة العربية من ''رصيد'' في هذا الصدد. ومن ذلك لجوؤها إلى المعجم السياسي لهذه الأنظمة في تعاطيها مع الاحتجاجات الحالية، من خلال ربطها بعناصر مندسّة بين المتظاهرين، تريد بلبنان شرا. وكان لافتا لجوءُ بعض مكونات هذه الطبقة إلى البلطجة، في محاولة منها لترهيب المتظاهرين، وإجبارهم على العودة إلى منازلهم كما حدث في صور.
تؤكد احتجاجات العراق ولبنان والسودان والجزائر أن الأنظمة العربية باتت، اليوم، أمام الحائط، بعد أن أخفقت في كل شيء، وباتت عاجزةً عن مواجهة حالة الإفلاس العامة، بسبب غياب الديمقراطية والحكم الرشيد وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، فضلا عن تعطّل التنمية وتدنّي الخدمات العامة الأساسية، لا سيما في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل التعليم والصحة والسكن والضمان الاجتماعي. لم يعد لدى هذه الأنظمة ما تقدّمه غير الإفراط في العنف في ظل نضوب موارد شرعيتها السياسية، ولم تعد قادرةً على إدارة التناقضات البنيوية التي تواجهها بلدانها، بعد أن غدت مختبراتٍ مفتوحةً لتجريب كل أنواع الفساد السياسي والإداري والاقتصادي.
لم يعد المواطن العربي يحلم بتحقيق مستوىً معيشيٍّ يُقرّبه مما يعرف بدولة الرفاه الاجتماعية، فذلك يتطلب أنظمة ديمقراطية منتخبة وتوزيعا عادلا للثروة الوطنية، واستقرارا اجتماعيا، بل تكاد أحلامه تنحصر في الحصول على الخدمات الأساسية. ويؤشر ذلك، بما لا يدع مجالا للشك، على إخفاق هذه الأنظمة، والقوى الاجتماعية المتحالفة معها، في تسويق ''فزّاعة المؤامرة الخارجية'' لتخويف شعوبها من مغبّة الخروج إلى الشارع للاحتجاج والمطالبة بالديمقراطية والحرية والعدالة والاجتماعية وإسقاط الفساد.
لم تُفلح الحكومات المتعاقبة في إقرار برامج إصلاحية قادرة على تحسين الواقع الاجتماعي والمعيشي للبنانيين، وجاءت الاحتجاجات الحالية لتعيد سؤال السياسة في لبنان إلى الواجهة، ليس لأنه يحيل، بالضرورة، على التوازنات الطائفية المعلومة، ولكن لأنه عنوانُ واقع اجتماعي مُزرٍ يتجلّى في تدهور الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار، وانهيار العملة، وتردّي الخدمات العامة، وتزايد نسب الفقر والبطالة، واستشراء الفساد في مؤسسات الدولة. وشكّلت الضرائب التي كانت حكومة سعد الحريري تنوي إقرارها النقطةَ التي أفاضت الكأس، لا سيما في ظل ما تسوّقه تقارير دولية متواترة بشأن حجم الأموال العمومية التي نُهبت في لبنان، هذا في وقتٍ تُصنّف فيه المؤشرات ذات الصلة البلد على حافّة الانهيار الاقتصادي.
وربما لا تزيّد في القول إن الحراك اللبناني تحولٌ نوعيٌّ في السياسة اللبنانية، في ضوء التجاوز المدهش من المتظاهرين انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، وتبنّيهم خطابا وطنيا ومدنيا، الشيء الذي يمكن اعتباره إدانةً شعبيةً غير معلنة للنظام الطائفي الذي حكم لبنان منذ الميثاق الوطني (1943). ومعلومٌ أن الأنظمة الاجتماعية التقليدية التي تتغذّى على الانتماءات القبلية والعشائرية والدينية والطائفية تفرز دينامياتٍ مضادّة للبناء الوطني، فتُعطّل التنمية وتكرّس التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا، يغدو هذا الحراك تعبيرا دالا عن رفض اللبنانيين، بمختلف مكوناتهم، البنية الطائفية بكل امتداداتها داخل الدولة والمجتمع.
ولعل حرص الطبقة السياسية اللبنانية على حماية مصالحها ومكاسبها التي استخلصتها من هذه البنية جعلها لا تخرج عمّا راكمته الأنظمة العربية من ''رصيد'' في هذا الصدد. ومن ذلك لجوؤها إلى المعجم السياسي لهذه الأنظمة في تعاطيها مع الاحتجاجات الحالية، من خلال ربطها بعناصر مندسّة بين المتظاهرين، تريد بلبنان شرا. وكان لافتا لجوءُ بعض مكونات هذه الطبقة إلى البلطجة، في محاولة منها لترهيب المتظاهرين، وإجبارهم على العودة إلى منازلهم كما حدث في صور.
تؤكد احتجاجات العراق ولبنان والسودان والجزائر أن الأنظمة العربية باتت، اليوم، أمام الحائط، بعد أن أخفقت في كل شيء، وباتت عاجزةً عن مواجهة حالة الإفلاس العامة، بسبب غياب الديمقراطية والحكم الرشيد وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، فضلا عن تعطّل التنمية وتدنّي الخدمات العامة الأساسية، لا سيما في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل التعليم والصحة والسكن والضمان الاجتماعي. لم يعد لدى هذه الأنظمة ما تقدّمه غير الإفراط في العنف في ظل نضوب موارد شرعيتها السياسية، ولم تعد قادرةً على إدارة التناقضات البنيوية التي تواجهها بلدانها، بعد أن غدت مختبراتٍ مفتوحةً لتجريب كل أنواع الفساد السياسي والإداري والاقتصادي.
لم يعد المواطن العربي يحلم بتحقيق مستوىً معيشيٍّ يُقرّبه مما يعرف بدولة الرفاه الاجتماعية، فذلك يتطلب أنظمة ديمقراطية منتخبة وتوزيعا عادلا للثروة الوطنية، واستقرارا اجتماعيا، بل تكاد أحلامه تنحصر في الحصول على الخدمات الأساسية. ويؤشر ذلك، بما لا يدع مجالا للشك، على إخفاق هذه الأنظمة، والقوى الاجتماعية المتحالفة معها، في تسويق ''فزّاعة المؤامرة الخارجية'' لتخويف شعوبها من مغبّة الخروج إلى الشارع للاحتجاج والمطالبة بالديمقراطية والحرية والعدالة والاجتماعية وإسقاط الفساد.