الأمهات أيضاً يبكين

21 مارس 2016
يشغلنا دوما التفكير في مشاعر أبنائنا متناسين مشاعرنا(العربي الجديد)
+ الخط -
صباح يوم إجازتها الأسبوعي صرخت ابنتي الكبرى في وجه شقيقتها وهو أمر بات معتادا أخيرا، ثارت وعلى وجهها ارتسمت كل أمارات الغضب، شاهدتها تستسلم لعصبيتها وتواصل صراخها غير عابئة بوجودي، ولا طلبي بالكف عن الصراخ، وحاولت الانتقال لمرحلة النقاش هذا الفعل الذي تحبه هي بكل حججها التي لا تنتهي؛ وبرصيد لا بأس به من صبر أدرب نفسي عليه منذ سنوات طوال استعدادا لهذه اللحظة ومثيلاتها.


واصلت الصغيرة غضبها، ونظرت أنا في عينيها أبحث عن مخرج لثورتها في ظل انسحاب حلمت أن أنعم به صباح يوم الإجازة، فلم أكن يومها على ما يرام، لم أنم جيدا وطاقتي خفتت، وكل ما حلمت به صباح رائق بلا مسؤوليات، لم تهتم بنظرتي ولا تحذيراتي ولا بأي شيء، وقتها فاضلت بين اختيارين أن أصرخ وأعنفها أو استسلم لحالة ضعفي الحقيقية جدا، ومن دون أن أدري تساقطت دموعي وكأن سمائي كانت ملبدة بغيوم كثيرة وآن لها أن تمطر، تركت دموعي وتخليت عن قوة أدعيها بوصفي أمّاً لا يجب أن أكون ضعيفة أمام صغيرتي.

حدثتها عن همومي جميعا، أخبرتها كم هو مرهق عدم إصغائها وإصرارها على رأيها، حكيت لها عني، تلك الإنسانة التي يجب أن أكونها وعن الحياة التي أعيشها وتحتاج لكثير من دعمها، طلبت منها أن تساعدني لأنني وحدي لن أنجح، وأخيراً قلت لها إنني فعلا متعبة وأحتاج لبعض الراحة والاهتمام!

هدأت ملامحها ورقت ونزلت دموعها فيما كنت أواصل حديثي، لم تكن دموع شفقة كما تخيلتها بل كانت اعتذارا عما لم تكن تعرفه من قبل، فهي الفتاة التي تعتبر أمها جبلا لا يهتز، في كل المواقف صامدة وصوتي يعلو في غضبي كما ضحكتي وقت اللعب، اعتذرت عن أسلوبها واحتضنتني وكأنها صارت أمي للحظات، أعرف أنها ستواصل نزقها وألاعيب طفولتها من جديد، ولكن هذا الموقف أراحني كثيرا وأشعرني أنني أستعيد ذاتي الضعيفة التي هي جزء مني حتى لو كان ذلك أمام صغيرتي.

تذكرت وقتها أمي.. تلك السيدة التي أورثتني عنادها وقوتها، يا ليتها كانت تبكي أمامي، ولكنها لم تفعل قط، الآن أحزن من أجلها وأعرف كم كانت تُقاسي حتى تكبح دموعها على اعتبار أن الأمهات لا يبكين!

قبل أيام كتبت صديقتي أنها تشعر بأنها أم سيئة للغاية، عددت نواقصها باعتبار تقصيرها كأم عاملة في بعض جوانب الاهتمام بصغارها جريمة عظمى، وكأنها كانت تتحدث عن فتاة أخرى غيرها، فهي الأم لثلاثة أطفال أصغرهم لم تتم عامها الأول بعد، والزوجة التي تحاول دوما جعل بيتها جميلا، والسيدة العاملة التي لا تقصر في عملها، وطالبة الماجستير التي تواصل الركض وراء حلمها في البحث والتعلم، فكيف لكل هذه الأشياء أن تنسى هكذا من دون ذكر؟! وكيف تستطيع لوم نفسها لأنها لم تتمالك نفسها واحتدت مع أبنائها؟!

يشغلنا دوما التفكير في مشاعر أبنائنا متناسين مشاعرنا، فلماذا نخاف هكذا من التعبير عن مشاعرنا كما هي مع الأبناء بدعوى أننا نربيهم؟! ألن يكونوا بعد بضع سنوات رجالا ونساء يعيشون في تلك الحياة التي نعيشها، يغضبون ويفقدون صبرهم ويبكون ويفرحون وينتصرون في معارك ويخسرون أخرى!

ربما تلعب التصورات المسبقة عن طبيعة الأم وكيف يجب أن تكون، دورا في تقييم أنفسنا ونعتها بأقسى الصفات رغبة في مزيد من التحسن ربما وأحيانا استسلاما لمجتمع يغرقنا في مسؤوليات لا تنتهي، فكونك أمّاً لا يجب أن تملّي من شيء ولا أن تضجري بكل ما حولك وليس من حقك أن تعلني يوما أنك مللت قواعد اللعبة وتحتاجين لوقت مستقطع!!

كل هذه القوالب التي ورثناها وصدقناها وصرنا نقدسها، بوسعها أن تسحق أرواحنا وأمومتنا في وقت واحد، فكيف لي أن أكون أمّاً حقيقية بلا مشاعر حقيقية!

مرت صديقتي بتجربة مرض وكانت ترفض إخبار أبنائها خوفا عليهم، في النهاية علموا وكما آلمتهم غيّرت تلك التجربة من نظرتهم للحياة وغيّرتهم، نخشى على أبنائنا من مرضنا وموت أقاربنا وبالأحرى من ضعفنا، نخشى أن نخبرهم بالكثير عنا كبشر عاديين يصيبنا ما يصيب الجميع ثم نتساءل لماذا لا يتحملون الحياة فيما بعد!

كل منا يحب أمه ويعتبرها بطلة، لأنها قامت بأشياء غير عادية، لكنني أحب أن تذكرني ابنتي كما أنا، لا أريد أن أفقد جزءا أصيلاً مني لأكون مجرد حكاية تُروى، وأريدها أن تكون إنسانة حقيقية قبل أن تكون أمّاً، وواثقة أنها في طريق بحثها عن إنسانيتها وعدم تخليها عن روحها ستجد نفسها أمّاً عظيمة، تستحق حكاية من تلك التي نحكيها نحن عن أمهاتنا.

(مصر)

دلالات
المساهمون