الأفلام الموسيقية.. لحظات النجاح الحزينة

10 يناير 2017
(مشهد من فيلم: la la land Movie)
+ الخط -
لم تخرج الأفلام الموسيقية عن الإطار الكلاسيكي سوى في استثناءات قليلة، مثل فيلم "مولان روج" لمخرجه باز لورمان من خلال نهايته المأساوية، فالأفلام الموسيقية من الأنواع السينمائية القليلة التي مرّت بتطوّرات على مستوى السرد، وكذلك الأمر فيلم "سويني تود: حلاق شارع ليفت الشيطاني" للمخرج تيم برتون. وهذه الأفلام أنتجت في القرن الواحد والعشرين أي أنها تعد من الأفلام الحديثة.

فيلم "الغناء في المطر" سنة 1952، والذي يعتبره كثير من النقاد والأكادميين أهم فيلم موسيقي في تاريخ السينما، هو أقرب ما يعبّر عن الأفلام الموسيقية، فأغلب الأفلام لم تخرج عن هذا الإطار، حيث العروض الراقصة والموسيقى المبهرة، وقصّة الحب التي تواجهها عقدة شخص لا يرغب في نجاح قصّة الحب لأسباب مختلفة. والنهاية السعيدة حيث تنتصر قصّة الحب ويتحقق النجاح.

وفيلم "الغناء في المطر" تميّز عن غيره بتعبيره عن الميلاد الصعب للسينما الناطقة، بالإضافة لتميّزه الموسيقي الذي جعله يأخذ هذه المكانة التاريخية، ولكنه يظل المثال الأوضح للنمط الكلاسيكي.

تصنيفات كثيرة من السينما تعرّضت لتغيّرات ما بعد حداثية في تناولها؛ سواء على مستوي الصورة أو السرد، إذ أصبحت الهزيمة مسيطرة وخفوت الفوارق بين الخير والشر، وعبثية الأحداث، والنهايات غير السعيدة بالضرورة. وفي الأفلام الموسيقية لم نرَ هذا التطوّر بالكيفية اللازمة، وربما الفيلمان المذكوران في الأعلى يعدّان من الاستثناءات القليلة.

الفيلم الموسيقي "la la land"، يعدّ أحد أهم الأفلام المفكك للبنية الكلاسيكية على عكس ما قد يبدو للمشاهد، نحن ليس أمام فيلم موسيقي بالمعنى الكلاسيكي، بل نحن أمام فيلم موسيقي يأخذ البنية الكلاسيكية الرومانسية لأوجه ما بعد حداثية.

يبدأ الفيلم نهارًا بمشهد غنائي راقص على أحد الجسور المزدحمة بالسيارات، تعددت عصور الموسيقى والأزياء المستخدمة في المشهد، فلم تقدّم موسيقى خاصة بعصر واحد. هذا المشهد الطويل والذي ظهر وكأنه لقطة واحدة long take، ولكنه في الحقيقة ثلاث لقطات تم تقطيعهم (cut) بمهارة مونتاجية. يُظهر فيه داميان شازال مهارته وقدرته على صنع استعراضات موسيقية راقصة ضخمة ومعقدة، ولكنه كان المشهد الصعب الوحيد ربّما طوال الفيلم سواء في استخدام المجاميع أو صعوبة الـmise en scene (التحكّم في حركة الكاميرا والممثلين). استعرض شازال قدرته، ثم بدأت أحداث الفيلم في نهاية هذا المشهد بلقاء مايا (إيما ستون) مع سبستيان (رايان جوزلنج).

قسمّ شازال فصول الفيلم لأربع فصول على أسماء فصول السنة، إذ بدأ بفصل الشتاء وانتهى بالخريف.

فصل الشتاء وهو الذي تمّ فيه تقديم الشخصيات. مايا التي تعمل نادلة وتقدّم في اختبارات التمثيل وتُرفض لأسباب لا تتعلّق بالموهبة بقدر ما تتعلق بالجمال أو أي سبب آخر مثل (عضو لجنة التحكيم يريد طلب الطعام)، وسبستيان الذي يأمل في فتح نادٍ لعزف موسيقى الجاز، ولكنه يُطرد من عمله كعازف في أحد النوادي لأن الموسيقي التي يعزفها أصبحت للعجائز فقط، وفي هذا الفصل يحدث اللقاء بين مايا وسبستيان أكثر من مرّة في صدف قدرية، وينتهي هذا الفصل بتبادل الأعجاب.

فصل الربيع وهو أجمل فصول الفيلم من حيث استعراض الإمكانات البصرية، وفيه يتمّ الدمج بين لحظات الحب المتوهّجة بين مايا وسبستيان وسعيهم لتحقيق أحلامهم. وفي هذا الفصل يتمّ عرض أفضل اللقطات لمدينة لوس أنجليس. حيث الشوارع المضيئة في الأسفل والنجوم اللامعة في السماء ولحظات الحب والحلم الملحمية، وفي هذا الفصل يلقي شازال التحية على الكثير من الأفلام الموسيقية العظيمة عن طريقة نقل كادرات شهيرة منها، كفيلم "الغناء في المطر" و"sweet sharity"، و"Broadway melody"، وهذا الفصل يعد أجمل فصول الفيلم بصفة عامة، فقد صوّرت أغلب مشاهده في أوقات الشروق والغروب مع أقل استخدام للإضاءة لجعل المشاهد أقرب للحلم.

فصل الصيف، وفيه تدرك مايا وسبستيان أن لوس أنجليس الجميلة هي مدينة وأد الأحلام، حيث يصطدمان بأزمات في الواقع.

كما قلنا، لم يستعرض شازال إمكاناته في عرضٍ راقصٍ ضخم سوى في المشهد الأول، واستعرض الإمكانات البصرية في الفصل الثاني، ولكن يبقى أحد الأشياء التي لم يتقنها شازل كثيرًا هي موسيقي الجاز، فلم تكن بمثل قوة فيلمه السابق "whiplash"، فعلى الرغم من موهبة سبستيان المشار إليها في الأحداث ولكن لم نره يعزف جازًا يدلل على هذه الإمكانات. ولكن على الرغم من ذلك رأينا براعة جوزلينج في عزف البيانو، والذي يبدو أنه تلقى دروس تقوية من أجل هذا الفيلم.

في نهاية فيلم "whiplash"، والذي يعتبر أحد أكثر المشاهد ظلامية، يتحدّى عازف الدرامز أستاذه القاسي ليثبت له موهبته، في هذا المشهد يفقد الشاب إحساسه بالعالم والألم، وكان قد ابتعد قبلها عن حبيبته، إذ أصبحت علاقاته خافتة مع جميع البشر. الشاب يعزف بإتقان وعدم وعي بالوجود في اللحظة نفسها، ليثبت أنه موهبة استثنائية.

أستاذه يرفع التحدّي والأب قلق مما يحدث لابنه. تتساقط الدماء من يد العازف الشاب ولكنه لا يتوقّف عن العزف. الطبول تكسوها دماؤه وعرقة ولكنه لا يتوقّف. لحظة ميلاد موهبة استثنائية، ولكن شازال حوّلها للحظة قاسية كئيبة، هكذا تكون لحظات النجاح بالنسبة لشازال. ليست أسعد اللحظات، بل هي لحظات التخلّي عن أجمل الأشياء من أجل هدف واحد، تلك هي معطيات النجاح في الحياة الحديثة التي لا ترحم، وهذا يختلف عن الإطار الكلاسيكي الذي يعتبر لحظة النجاح هي لحظات الظفر التي يتحقّق فيها كل شيء.

وهذا ما حدث في فصل الخريف في فيلم "lala land"، وللمرّة الثانية يحوّل لحظات تحقيق الأهداف للحظات حزينة، فقد حقّقوا حلمهم ولكنهم خسروا كل شيء آخر تمنّوه. هكذا تحوّلت لوس أنجليس الجميلة (مدينة النجوم) كما غنّوا لها، إلى مدينة قاسية تهزم الحالمين داخليًا. ودائمًا الفصل الأخير في أفلام شازال هو فصل الخريف القاسي.

ساعد شازال على النجاح والتناغم والإتقان بطريقة غير عادية، بين إيما ستون ورايان جوزلنج البذين قدّما ثنائية من أفضل الثنائيات في العقد الحالي بكل تأكيد، ربما "la la land" لم يصل لذروة جمال الأفلام الموسيقية الكلاسيكية ولكنّه قدم رؤية مختلفة لمجريات الحياة عن التي تتبناها الأفلام الموسيقية. وهذا هو موطن تفرّد الفيلم.

المساهمون