لا أحد يعرف السبب الحقيقي وراء توجّه معظم المطربين العرب لتقديم الأغنية العراقية في السنوات القليلة الماضية، فالغناء العراقي الذي وصفه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بالمدرسة التي تحلّق خارج السرب بداية سبعينيات القرن الفائت، حينما قال (كل الغناء العربي يدور في فلك المدرسة المصرية إلا الغناء العراقي فهو مدرسة بحد ذاته)، ظهرت أهميته على ما يبدو بعد الانفتاح الفضائي والإعلامي العراقي على الوطن العربي. بدأ الجمهور العربي يستمع أكثر للمقامات والأطوار الغنائية العراقية غير المألوفة عربياً، بأصوات نجوم غناء عراقيين، كالراحلين ناظم الغزالي ومحمد القبنجي ورياض أحمد وفؤاد سالم، وبأصوات رواد كبار ما زالوا على قيد الحياة، كـ ياس خضر وحسين نعمة وأمل خضير وزهور حسين.
هؤلاء كانت تجربتهم الفنية غنائياً محصورة في بلدهم العراق، وبقي صوت إبداعهم يئن تحت هدير أصوات القنابل والدبابات منذ مطلع ثمانينيات القرن الفائت، حيث عاش العراقيون منذ ذلك التاريخ ولغاية اليوم ويلات الحروب المتتالية وغير المتوقفة، ولم يشذ عن قاعدة التقوقع عراقياً والانتشار العربي سوى ناظم الغزالي، وبدرجة أكبر قليلا سعدون جابر، حتى حقق كاظم الساهر الاختراق العربي، رغم الحصار الاقتصادي والسياسي، الذي فُرض على العراق بداية التسعينيات، لأن الساهر وازن بذكاء ما بين الغناء الشعبي العراقي وبين طموحه الشخصي بأن يُخلد نفسه مطرباً للقصيدة العربية.
لكن التوجه العربي نحو تقديم الأغنية العراقية على أهميته، اتخذ مسارين مختلفين، الأول: تقديمها بشكلها الموسيقي المعروف عبر "تعاونات" رسمية بدأها المطرب السعودي راشد الماجد بأغنية العيون من كلمات غازي السعدي وألحان مهند محسن، إذ تنبه مطربون آخرون وقتها لضرورة محاكاة نجاحات تجربة الماجد بحثاً عن جمهور جديد، وتبع الماجد بهذه الخطوة ديانا حداد ونوال الزغبي وعاصي الحلاني وفضل شاكر وملحم زين وأيمن زبيب ومريام فارس، وكثيرين تعاونوا مع شعراء غنائيين وملحنين، قدموا تجارب متباينة النجاح في الغناء العراقي، بحثاً عن التجديد في غنائهم، والأهم من ذلك التواصل مع جمهور كبير غير مكتشف عربياً.
المسار الثاني، تمثل بأن بعض الأغاني العراقية كانت سبباً في انتشار بعض المغنين ومعرفة الجمهور بهم، مثل اللبناني أيمن زبيب والسعودي جواد العلي، اللذين قدّما في حفلاتهما أغنيات كثيرة من الأرشيف الغنائي العراقي لمطربين عراقيين غير معروفين عربياً بشكل كبير في وقت غناء هؤلاء لأغنياتهم، إنما لهم شهرتهم في العراق والأردن والخليج العربي مثل حاتم العراقي وعلي محمود العيساوي ومحمود أنور وهيثم يوسف، ويبقى حاتم العراقي أكثرهم شهرة قبل انضمامه لشركة "روتانا"، التي ساهمت في وصول أغانيه لمختلف أنحاء الوطن العربي.
وهذا المسار، جعل من مفردة الغناء العراقي وجملته اللحنية بمختلف المقامات والأطوار الغنائية، محبباً لدى الجمهور العربي، فقدم مطربون كبار مثل عاصي الحلاني وحسين الجسمي الأغنية العراقية دون نسبتها لأصحابها الأصليين، واكتفوا بنسبها للفلكلور العراقي، رغم أن هذه الأغنيات لها مطربوها المتواجدون للآن على الساحة الفنية.
وكذلك الأمر مع المغني اللبناني أيمن زبيب الذي لا تخلو حفلاته من مواويل المطربين العراقيين حاتم العراقي وعلي العيساوي، مع إغفال ذكر أصحاب هذه الأغنيات، ما دفع المطرب علي العيساوي إلى وصف الأغنية العراقية بالبوفية الذي يأخذ منه المطربين العرب أعمالهم، دون حسيب أو رقيب أو حتى مساءلة أو استئذان، لدرجة أن الجمهور أغلبه لا يعرف أن هذه الأغنيات والمواويل لها مطربوها الأصليون، وباتوا يظنون أنها لمن يقدمها حالياً.
ويقول الشاعر اللبناني محمد ماضي، مسؤول الساسيم في لبنان وهي جمعية عالمية تُعنى بالمؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى، إن هدف الجمعية الأساس، هو حفظ وتحصيل حقوق المؤلّف والملحّن والناشر، وليس المطرب أو المغني، لأن الأغنية حسب ماضي "ابنة المؤلف والملحن، فالأغنية مثل الابنة، تزوَّج ولا تُباع وتبقى ابنة والديها"، مضيفاً "إذا حصلت قرصنة لأغنية ما من قبل أي مغنّ على مغنّ آخر، فالمؤلف والملحن هما من يتقدمان بشكوى على الشخص المعتدي على حقهما، لأن مردود الحق الأدبي والمادي والمعنوي يعود للمؤلف والملحن.
ويتحسر ماضي على القانون العالمي غير المفعل في كثير من الدول العربية مثل العراق وسورية وليبيا، معتبراً أنّ في الوطن العربي لا يوجد مطرب يلتزم بدفع الحقوق لأصحابها، ويعتقد أن الأغنية "وصلته بعد أن أورثه إياها عائلته". ويقول ماضي إذا أراد أي مطرب أن يعيد تقديم أغنية قديمة، سواء في الحفلات أو في الألبومات، يجب عليه أن يحصل على إذن من المؤلف والملحن أو من "الساسيم" ذاتها، لأن الجمعية يحق لها أن تمنح تراخيص بإعادة تسجيل الأغنية مجددا، خصوصاً أن الساسيم ملتزمة بدفع الحقوق أيضاً للمؤلف والملحن والناشر.
ورأى ماضي أن الساسيم يرحب بانضمام الشعراء والمؤلفين والملحنين من مختلف أنحاء الوطن العربي لعضويته، حتى يستطيع الدفاع عن حقوقهم في حال الاعتداء عليها، واصفاً الحالة الفنية العربية بالـ"فلتانه" هذه الأيام.
اقرأ أيضاً:
إنتاجات تائهة: حال الفنانين بعد ثورة الميديا "المجّانية"