04 أكتوبر 2024
الأصوليون والإقصاء والخرافات
ليس الأصوليون السلفيون فقط هم مَن لديهم ذلك الحنين المحموم للماضي، بل هناك كثيرون مثل هؤلاء، كما أصحاب تيارات وأفكار أخرى فيها درجة من الأصولية. ربما لو بحثت خارج التيارات الفكرية والسياسية، ستجد أن لدى كثيرين ذلك الحنين للماضي بدرجةٍ ما، فدائما عندما يتأزّم الحاضر هناك من يلجأ إلى رسم صورة وردية خيالية للماضي الجميل، حيث كان يسود العدل والمساواة، أو عندما كنّا أسياد العالم.
كثيرا ما نسمع في مصر عبارة زمن الفن الجميل، أو العصر الذهبي الجميل، عندما يحنّ بعض منّا إلى بدايات القرن العشرين، عندما كانت الموسيقى جميلة والشوارع نظيفة والعمارة رائعة، وكان الناس يتعاملون بذوق وود، بدون ذلك التعصب والعصبية والصياح والصراخ الذي أصبح يسود مصر الآن. لكن، لو رجعنا بآلة الزمن إلى الوراء، سنجد كثيرين هناك أيضا ناقمين على معيشتهم، وفي حنين دائم للزمن الجميل والعصر الذهبي في القرن الـ18 والـ19، عندما كانت الحياة أهدأ وأبسط. ولكن، على الرغم من جمال الحياة في بدايات القرن العشرين، والفترة شبه الليبرالية في مصر، إلا أن الصورة لم تكن وردية كذلك، فقد كان هناك فقر وطبقية واحتلال أجنبي. وفي القرن الـ19 وما قبله كانت هناك مشكلات مماثلة.
وينطبق كذلك على الواقع السياسي، فهناك التيار الإسلامي الأصولي، بتصنيفاته المختلفة، وهو الذي يرى أن الحل في العودة إلى الماضي، والعيش معيشتهم، وتطبيق أحكامهم وطريقة معالجتهم للأمور على عصرنا الحالي، مهما كانت تلك الأحكام متشدّدة، ومهما كانت لا تتناسب مع عصرنا، أو المستجدات والظروف المحيطة، على الرغم من أن أهل الماضي كانت لهم معيشة مختلفة وعادات مختلفة وظروف مختلفة، أو كأن هذا الماضي لم يكن بلا أخطاء، أو لم يكن مليئا بالصراع الدموي على السلطة والملك منذ البدايات.
ليس الإسلاميون فقط من يمكن أن يطلق عليهم وصف أصوليين، فكما الأصولية دينية هناك
أصولية علمانية، لا تختلف عنها كثيرا، في مستوى السلفية والتشدّد، فالعلمانية الأصولية تتخذ منحىً معاديا للأديان بشكل متشدّد، ما يتسبب في النفور من تلك الكلمة، وجعلها مرادفا للإلحاد عند قطاعات عريضة، خصوصا في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وتكون هذه العلمانية أكثر ميلا إلى نموذج الثورة الفرنسية، وربما أكثر حدة منها في معاداة الأديان، بعنف، واعتبار الأديان سبب كل البلاء، لا يختلف عن الأصولية الدينية، أو الفكر التكفيري المتشدد الذي يرفض وجود الآخر.
النموذج الأبرز للأصولية ومحاولة العودة إلى الماضي، من وجهة نظري، هي الأصولية القومية، إن صحّ التعبير، فهناك تيار يريد العودة بِنَا إلى ماضي الخمسينيات والستينيات وفترة المد القومي والحرب الباردة، تيار يقوم على تخوين الآخر والمختلف، وهو تخوين لا يقل قبحا عن التكفير. وكثيرا ما يؤدي إلى النتيجة نفسها، من إهدار دم المختلف، واستخدام العنف ضده، ويصاحب ذلك قمعٌ وانتهاكاتٌ، إذا كان هذا التيار القومي في السلطة، وتخوين ومزايدات واحتكار للوطنية إذا كان هذا التيار خارج السلطة.
جالت تلك الأفكار في خاطري عندما شاهدت فيلما وثائقيا، واستمعت فيه لأحد الرهبان البوذيين، وهو يخطب في جمع من الجماهير المتطرفة، وهو يحرّضهم ضد المسلمين الروهينغا، قائلا بحماس شديد إن العالم كله يهاجمنا، ويهاجم البوذية، ويزعمون أننا متوحّشون، لكننا غير متوحشين. إننا ندافع عن أنفسنا وندافع عن ديننا وندافع عن وطننا، المسلمون هم الذين يريدون قتلنا وطردنا من ديارنا، وهؤلاء السياسيون الليبراليون الذين يتحدّثون عن التعايش وحقوق الإنسان هم خونة لدينهم ووطنهم، أي تعايش وحقوق إنسان لهؤلاء المسلمين الذين يريدون غزو بلادنا، ويسعون إلى تغيير ديننا وهويتنا وثقافتنا؟
وتقرأ كتابات قوميين عرب لا يزالون يُصرّون على استخدام نظرية المؤامرة الغربية في تفسير استفتاء كردستان، على الرغم من وضوح الرفض الأميركي والروسي والتركي والإيراني لمسألة الانفصال، فالاستفتاء الذي حدث، ونيات الأكراد في الانفصال متعارضة مع مصالح كل الأطراف الرئيسية اللاعبة في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة لا تريد خسارة الحليف التركي المتضرّر من إقامة دولة كردية، وروسيا لا تريد الضرر لإيران، أو بشار الأسد، بسبب احتمال انتشار عدوى الاستقلال الكردي. وعلى الرغم من ذلك، تجد القوميين العرب والناصريين يستخدمون نظرية المؤامرة الغربية لتفسير كل الظواهر الكونية، مثل خرافات تقسيم المقسّم و"سايكس بيكو" الجديدة. وذلك بينما يتباكون على "سايكس بيكو" القديمة، ويرفضون أي مساس بالحدود التي صنعتها الحرب العالمية الأولى، ويحاربون حق تقرير المصير لأمةٍ غير عربية فقط لأنها غير عربية، إنها العقلية القومية الأصولية التي ترغب في العيش دائما في أجواء الحرب الباردة، ولا ترى مشكلةً في إعادة إيجاد صنم جديد يحكم الناس بالحديد والنار، ويخدعهم تحت شعارات برّاقة، مثل التحرّر ومقاومة الغرب المتآمر، أو تحت شعارات المقاومة والممانعة، فقديما كان عبد الناصر. وبعد وفاته، صنعوا أصناما لصدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد، وها هم الآن يصنعون الآن أصناما لعبد الفتاح لسيسي أو بشار وخامنئي.
وعودة إلى الفكرة الرئيسية بشأن الأصوليات الثلاث (الدينية والعلمانية والقومية العسكرية)،
يمكن القول إنه على الرغم من الخلاف الظاهر والصراع التاريخي، إلا أن هناك مشتركات كثيرة، فالأصولي الديني يرى أن إنقاذ البشرية في اختفاء الآخر من الوجود، بالقتل أو الاعتقال أو التهجير أو الإقصاء أو التهميش. شوهد ذلك في تجارب الجماعات الجهادية التي حكمت في أفغانستان أو العراق وسورية، وفي أفعال الرهبان المتعصبين ضد مسلمي الروهينغا. ولا تختلف الأصولية العلمانية كثيرا عن ذلك، فهناك من يرى أن مشكلة الكرة الأرضية في المؤمنين، وتحديدا المسلمين منهم. ولذلك لا غضاضة في الطرد والتهجير والحبس، فهم قوم لن تجدي معهم الديمقراطية ولا يتوافقون معها، وهي أفكار أدت إلى قمع الشعوب المسلمة في الاتحاد السوفييتي في النصف الأول من القرن العشرين، وهي الأفكار التي تظهر هذه الأيام في كتابات وأحاديث بعضهم التي تبرّر قمع الأقليات المسلمة أو المهاجرين، وطردهم وإقصائهم.
وعلى الرغم من الصراع التاريخي في الوطن العربي بين القوميين العرب والإسلاميين، إلا أن هناك نقطة مشتركة أخرى غير التكفير والإقصاء، وهي الاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير الأشياء، فتقريبا يمكن القول إن كل التنظيمات الأصولية الإسلامية تعتمد على قصة تآمر الغرب الصليبي ضد الإسلام، وكراهية الغرب الصليبي للمسلمين، واستمرار الحروب الصليبية ضد المسلمين، وكذلك يعتمد القوميون الأصوليون على نظرية المؤامرة الغربية لإفشال العرب. وربما لا يخلو العالم من التآمر والتآمر المضاد على مر التاريخ والعصور، ولكن إلقاء فشلنا وتخلفنا كأمة عربية، أو كأمة إسلامية، على نظرية المؤامرة فقط هو عين الفشل وقمة الهروب من الواقع، فهناك أسباب داخلية وصراعات تاريخية ساعدت على نجاح مؤامرات الآخرين، لولاها لما كان هذا حالنا.
كثيرا ما نسمع في مصر عبارة زمن الفن الجميل، أو العصر الذهبي الجميل، عندما يحنّ بعض منّا إلى بدايات القرن العشرين، عندما كانت الموسيقى جميلة والشوارع نظيفة والعمارة رائعة، وكان الناس يتعاملون بذوق وود، بدون ذلك التعصب والعصبية والصياح والصراخ الذي أصبح يسود مصر الآن. لكن، لو رجعنا بآلة الزمن إلى الوراء، سنجد كثيرين هناك أيضا ناقمين على معيشتهم، وفي حنين دائم للزمن الجميل والعصر الذهبي في القرن الـ18 والـ19، عندما كانت الحياة أهدأ وأبسط. ولكن، على الرغم من جمال الحياة في بدايات القرن العشرين، والفترة شبه الليبرالية في مصر، إلا أن الصورة لم تكن وردية كذلك، فقد كان هناك فقر وطبقية واحتلال أجنبي. وفي القرن الـ19 وما قبله كانت هناك مشكلات مماثلة.
وينطبق كذلك على الواقع السياسي، فهناك التيار الإسلامي الأصولي، بتصنيفاته المختلفة، وهو الذي يرى أن الحل في العودة إلى الماضي، والعيش معيشتهم، وتطبيق أحكامهم وطريقة معالجتهم للأمور على عصرنا الحالي، مهما كانت تلك الأحكام متشدّدة، ومهما كانت لا تتناسب مع عصرنا، أو المستجدات والظروف المحيطة، على الرغم من أن أهل الماضي كانت لهم معيشة مختلفة وعادات مختلفة وظروف مختلفة، أو كأن هذا الماضي لم يكن بلا أخطاء، أو لم يكن مليئا بالصراع الدموي على السلطة والملك منذ البدايات.
ليس الإسلاميون فقط من يمكن أن يطلق عليهم وصف أصوليين، فكما الأصولية دينية هناك
النموذج الأبرز للأصولية ومحاولة العودة إلى الماضي، من وجهة نظري، هي الأصولية القومية، إن صحّ التعبير، فهناك تيار يريد العودة بِنَا إلى ماضي الخمسينيات والستينيات وفترة المد القومي والحرب الباردة، تيار يقوم على تخوين الآخر والمختلف، وهو تخوين لا يقل قبحا عن التكفير. وكثيرا ما يؤدي إلى النتيجة نفسها، من إهدار دم المختلف، واستخدام العنف ضده، ويصاحب ذلك قمعٌ وانتهاكاتٌ، إذا كان هذا التيار القومي في السلطة، وتخوين ومزايدات واحتكار للوطنية إذا كان هذا التيار خارج السلطة.
جالت تلك الأفكار في خاطري عندما شاهدت فيلما وثائقيا، واستمعت فيه لأحد الرهبان البوذيين، وهو يخطب في جمع من الجماهير المتطرفة، وهو يحرّضهم ضد المسلمين الروهينغا، قائلا بحماس شديد إن العالم كله يهاجمنا، ويهاجم البوذية، ويزعمون أننا متوحّشون، لكننا غير متوحشين. إننا ندافع عن أنفسنا وندافع عن ديننا وندافع عن وطننا، المسلمون هم الذين يريدون قتلنا وطردنا من ديارنا، وهؤلاء السياسيون الليبراليون الذين يتحدّثون عن التعايش وحقوق الإنسان هم خونة لدينهم ووطنهم، أي تعايش وحقوق إنسان لهؤلاء المسلمين الذين يريدون غزو بلادنا، ويسعون إلى تغيير ديننا وهويتنا وثقافتنا؟
وتقرأ كتابات قوميين عرب لا يزالون يُصرّون على استخدام نظرية المؤامرة الغربية في تفسير استفتاء كردستان، على الرغم من وضوح الرفض الأميركي والروسي والتركي والإيراني لمسألة الانفصال، فالاستفتاء الذي حدث، ونيات الأكراد في الانفصال متعارضة مع مصالح كل الأطراف الرئيسية اللاعبة في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة لا تريد خسارة الحليف التركي المتضرّر من إقامة دولة كردية، وروسيا لا تريد الضرر لإيران، أو بشار الأسد، بسبب احتمال انتشار عدوى الاستقلال الكردي. وعلى الرغم من ذلك، تجد القوميين العرب والناصريين يستخدمون نظرية المؤامرة الغربية لتفسير كل الظواهر الكونية، مثل خرافات تقسيم المقسّم و"سايكس بيكو" الجديدة. وذلك بينما يتباكون على "سايكس بيكو" القديمة، ويرفضون أي مساس بالحدود التي صنعتها الحرب العالمية الأولى، ويحاربون حق تقرير المصير لأمةٍ غير عربية فقط لأنها غير عربية، إنها العقلية القومية الأصولية التي ترغب في العيش دائما في أجواء الحرب الباردة، ولا ترى مشكلةً في إعادة إيجاد صنم جديد يحكم الناس بالحديد والنار، ويخدعهم تحت شعارات برّاقة، مثل التحرّر ومقاومة الغرب المتآمر، أو تحت شعارات المقاومة والممانعة، فقديما كان عبد الناصر. وبعد وفاته، صنعوا أصناما لصدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد، وها هم الآن يصنعون الآن أصناما لعبد الفتاح لسيسي أو بشار وخامنئي.
وعودة إلى الفكرة الرئيسية بشأن الأصوليات الثلاث (الدينية والعلمانية والقومية العسكرية)،
وعلى الرغم من الصراع التاريخي في الوطن العربي بين القوميين العرب والإسلاميين، إلا أن هناك نقطة مشتركة أخرى غير التكفير والإقصاء، وهي الاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير الأشياء، فتقريبا يمكن القول إن كل التنظيمات الأصولية الإسلامية تعتمد على قصة تآمر الغرب الصليبي ضد الإسلام، وكراهية الغرب الصليبي للمسلمين، واستمرار الحروب الصليبية ضد المسلمين، وكذلك يعتمد القوميون الأصوليون على نظرية المؤامرة الغربية لإفشال العرب. وربما لا يخلو العالم من التآمر والتآمر المضاد على مر التاريخ والعصور، ولكن إلقاء فشلنا وتخلفنا كأمة عربية، أو كأمة إسلامية، على نظرية المؤامرة فقط هو عين الفشل وقمة الهروب من الواقع، فهناك أسباب داخلية وصراعات تاريخية ساعدت على نجاح مؤامرات الآخرين، لولاها لما كان هذا حالنا.