الأصل السياسي لمجزرة السويداء

28 يوليو 2018
+ الخط -
تعيد الجريمة البشعة التي ضربت السويداء في 25 من شهر يوليو/ تموز الجاري، وراح ضحيتها ما يزيد عن 250 ضحية، إلى الذهن، الجريمة التي ضربت قرى ريف اللاذقية الشمالي في أغسطس/ آب 2013، والجريمة التي ضربت طرطوس وجبلة في مايو/ أيار 2016. في كل هذه الجرائم إشارة استفهام بشأن الدور الغائب لقوات نظام الأسد في التصدي لهذه الاختراقات السهلة والبدائية: كيف يتمكّن الانتحاريون من تجاوز الحواجز الكثيرة وصولاً إلى الهدف؟ أو كيف تغيب القوى المكلفة حماية القرى، فيفاجأ الأهالي بالمجرمين فوق رؤوسهم ويُقتلون في بيوتهم، ثم تأتي النجدات الأهلية قبل ساعات من نجدة قوات النظام التي يفترض أنها ترابض في المناطق التي تشكل خطوط تماس؟
وفي حين تذهب تفسيراتٌ كثيرة إلى أن المجزرة الرهيبة في السويداء هي نتيجة نوع من تواطؤ غير معلن لنظام الأسد مع "داعش"، لكي تدفع السويداء ثمن موقفها برفضها الخروج إلى الحرب مع هذا النظام، وحمايتها أكثر من 40 ألفا من أبنائها الرافضين الالتحاق بالخدمة الإلزامية، وبروز ظاهرة مشايخ الكرامة غير الموالية للنظام؛ فإن تفسيراتٍ مواليةً لنظام الأسد تذهب إلى القول إن ما جرى هو ثمن "الانتصارات" في الجنوب، كما جاء في صحيفة الأخبار في تناولها خبر مجزرة السويداء: "كان لا بد لأحد ما أن يدفع فاتورة الانتصار الذي حققته سورية في جنوبها"، من دون أن ندري لماذا يكون هذا "الأحد ما" أهالي السويداء بالتحديد.
هناك تفاصيل مريبة تحيط بهذه المجزرة، مثل نقل دواعش مخيم اليرموك إلى منطقة الأشرفية 
والعورة في شمال شرق السويداء في مايو/ أيار الماضي، وسحب القوات النظامية من محيط القرى من حوالي الشهر، ثم سحب الأسلحة من الناس قبل أيام من المجزرة، وصولاً إلى إطفاء الكهرباء في ليلة الجريمة، .. إلخ، فضلاً عن حرية تنقل عناصر "داعش" بالمئات وبسيارات دفع رباعي في منطقة مكشوفة، ويفترض أنها منطقة عمليات عسكرية خاضعة للمراقبة، وكيف انسحب من نجا من هذه العناصر بعد المجزرة بالسيارات، في الوقت الذي يمكن لحوامة واحدة أن تدمرها بسهولة ..إلخ.
لدى أهل السويداء شعور راسخ بتعرّضهم لخيانة ما، وهو الشعور الذي دفعهم إلى طرد دوريات الأمن التي جاءت إلى القرى بعد المجزرة، ولطرد وفد النظام (المحافظ وقائد شرطة المحافظة وأمين فرع الحزب) من تشييع ضحايا المجزرة. غير أن وراء هذه الواجهة "العسكرية" أصلا سياسيا منتجا للمجازر، يجب رؤيته والتوقف عنده من دون الضياع في تفاصيل المجزرة. التقدم العسكري الذي يحققه النظام اليوم سبقه نشاط سياسي وإعلامي حثيث، عزز العزل السياسي للجماعات المسلحة التي تواجه نظام طغمة الأسد، بوصفها جماعات متمرّدة بلا مشروع سياسي أو جماعات إسلامية متطرّفة.
غير أن التقدّم العسكري للنظام، رافقه، وعلى طول الخط، تراجع حاد في شرعيته السياسية الداخلية: أولاً، حين عرض أبشع أنواع الممارسات العنفية ضد الأهالي، والتي تضعه في خانة الغزاة والمحتلين، ولا سيما استخدام السلاح الكيميائي والتهجير القسري والنهب والعبث في التركيب الديموغرافي للبلد. وثانياً، حين عرض تبعية سياسية وعسكرية مهينة، فبات الروس والإيرانيون يفاوضون الأهالي والجهات السورية المعارضة بدلاً من النظام، ما أظهره قوة أجنبية تجاه الأهالي. وثالثاً، حين عرض عجزاً عسكرياً تاماً إزاء الاستباحة الاسرائيلية لسورية.
لم يعد في رصيد النظام إذن أي قيمة سياسية داخلية (نؤكد على القيمة الداخلية لأنها مستقلة عن القيمة الخارجية كما تبدو في عيون الدول الكبرى التي لا تكترث كثيراً في القيمة السياسية للنظام، وترى أن قيمة نظام الأسد هي في مجرد قدرته على الاستمرار، مع قابليته الدائمة للانخراط في المنظومة العالمية بالطبع). لم يعد لطغمة الأسد من رصيد سوى القوة (وهي قوة مستعارة فوق ذلك)، والقوة تعتاش على الخوف، إذن يجب أن تحدث، بين وقت وآخر، مجزرة مروعة تدفع الناس إلى إهمال أي قيمة سياسية أمام قيمة الأمان التي يمكن أن يوفرها الطرف القوي.
بدلاً من التنافس السياسي، كرّس نظام طغمة الأسد التنافس على القوة، وهذا هو الأصل المنتج 
للمجازر. يزداد الطلب على القوة مع تزايد الخوف بين الأهالي، وهل هناك ما يخيف الأهالي أكثر من مجزرة مفاجئة تستهدف مدنيين عزّلا من دون تمييز؟ هذه المجازر رسالة إلى الجميع ولكل فرد إنه مستهدف، ويحتاج إلى حماية قبل أي شيء آخر، حتى لو جاءت هذه الحماية من جهة مرفوضة، ولا تمتلك مشروعية. أليس هذا الحال هو حال بعض أهالي درعا الذين فرّوا خوفاً من تقدم قوات نظام الأسد، وكانوا جاهزين لقبول الحماية، ولو من إسرائيل؟
حين تأتي هذه المجازر على يد تنظيم مهووس بالقتل، مثل تنظيم داعش، فإن النظام يستثمرها لصالح منطق القوة الذي لم يعد يمتلك سواه، وهذا ما يضع "التغاضي والتسهيلات" المفضية إلى هذه الجرائم المروّعة موضع التصديق. هذا يشكل إدانةً كافيةً لنظام الأسد، حتى لو كانت المعلومات المتعلقة بهذا الجانب خاطئة. يكفي أن يكون الوعي السوري العام، أو الجزء الأكبر منه، مستعدّاً لقبول فكرة تواطؤ النظام مع "داعش"، حتى يكون ذلك إدانة كافية للنظام. يكفي أن يجد الأهالي في إسرائيل ملاذاً من النظام، ليكون ذلك إدانة له، وليس للأهالي الذين يبحثون عن أمانهم، ويفرّون بحياتهم وأطفالهم، أينما كان.
حسناً فعل أهالي السويداء في طرد ممثلي النظام من عزاء أولادهم وأحبتهم، وحسناً فعلوا حين تصدوا ببطولة، وبوسائلهم البسيطة لمجرمي "الدولة" في غياب الدولة، لكن الراجح، في ظل سيادة منطق القوة، أن حصيلة المجزرة سوف تميل، مع ذلك، إلى زيادة طلب الأهالي على قوة النظام الذي سوف يزداد طلبه بالمقابل على المجازر.
بقاء النظام الذي يستمد شرعيته من القوة هو بيئة مجازر لا تنتهي، ولا مخرج منها إلا بالتحول إلى نظام ذي شرعية سياسية. أو، بلغة ابن خلدون، لا خروج لنا من بيئة المجازر المتنقلة والمتكرّرة، إلا في التحول من "المُلك الطبيعي" إلى "المُلك السياسي".
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.