يعبُر السيد هاني بوابة الدرجة السياحية للطائرة عابس الوجه، ويقابل ابتسامة الطاقم المصطنعة بوجه خالٍ من التعبير ومن نظرات المجاملة، ويحشر جسده الضخم في المقعد الضيّق وهو يعرف أنه لن يستطيع النوم في هذه الرحلة الطويلة بين (سيول) وعمّان. لا شيء أسوأ من الثرثرة مع الغرباء إلّا قراءة الكتب، فهي عادة لا تناسب أبداً الاهتمامات المحدودة للسيد هاني الذي يعمل في تجارة قطع الغيار المستعملة للشاحنات، ويمقت حمل الحقائب والمشي في المطارات وإجراءات السفر والتفتيش، خصوصاً خلع الحزام عن بطنه المستدير عند بوابة التفتيش البدني. وما أن يستقرّ في مقعده حتى يضع السماعتين فوق أذنيه ويبدأ البحث عن فيلم مُسلٍّ يساعده على الانفصال عمن يحيطه.
في المقعد المجاور له يجلس ولد في العاشرة من عمره تقريباً، ويبدأ بالعبث في الأزرار المحيطة به، ويمد أصابعه النحيلة الفضولية في كل الفتحات، فيفكر هاني أنه سيكون مصدر إزعاج كبير له خلال الرحلة، ولكنّ الفتى يغفو فور إقلاع الطائرة، ويتقلّب ويتشقلب بضع مرات بحثاً عن وضعية مريحة إلى أن يستقرّ رأسه على كتف هاني فيستريح كمن وجد صدر أمه، ثم يضع إبهامه في فمه ويبدأ بمصّه.
اقرأ أيضًا: سبورة مِس هدى
يفرد هاني أصابع يده اليسرى القريبة من وجه الولد فيراها قصيرة سمينة مبقّعة بالندوب، ويحاول خلع الخاتم الذهبي العريض من بنصره فلا يتمكن، وتسري في بدنه قشعريرة وهو يتخيّل نفسه ممسكاً بمنشار للحديد يبتر به إصبعه ثم ينادي المضيفة ويطلب منها بلطف أن ترميه والخاتم الملطخ بالدماء في مرحاض الطائرة.
تبتسم المضيفة وتسأله بالإنجليزية:
- هل يرغب ابنك في العشاء؟
- نوم الظالمين عبادة. أجاب بالعربية وهو يثبّت السماعتين فوق أذنيه.
تتردد المضيفة قليلاً ثم تمد أصابعها الرشيقة من فوقه وتلمس رأس الفتى فلا يستيقظ، فتتركه يكمل رضاعته وتواصل دفع عربة الطعام الثقيلة نحو المقاعد الخلفية.
اقرأ أيضًا: كلاب حراسة
ينظر هاني إلى صينية العشاء النظيفة أمامه ويتذكر المذاق السكري اللذيذ الممزوج بالتراب وصدأ الحديد بعدما يمصّ أصابعه النحيلة بعد الانتهاء من أكل قطعة الهريسة الدَّبِقة. قبل ثلاثين سنة كان يجرّ عربة خشبية بحبل مهترئ، وعجلات حديدية ذات صرير مزعج، يسحبها في حارات عمان الشرقية، ويمرّ بها على ورش البناء ليجمع المسامير الحديدية المنحنية التي تفرّ من تحت مطارق البنّائين. وفي صبيحة يوم الجمعة ينزل إلى سقف السيل فيشتري ساندويتشة وقطعة حلوى وتذكرة لسينما (الحمراء) ويدخل في العتمة ليشاهد ثلاثة أفلام متواصلة.
ينظر هاني إلى وجه الولد الغارق في النوم، ويتأمل ملامحه الهجينة؛ أهداب عربية طويلة تغطي عينين آسيويتين مسحوبتين، وبشرة سمراء على وجه مسطح مستدير المحيّا وأنف صغير وشفتان بارزتان وشعر غزير خشن. وينعم النظر في أظافره الشفافة وأصابعه النظيفة المتصلة عبر إبهامه بشفتيه الطريتين، فيبدو كأنه ينفخ نغمة هادئة في بوق، وتتوقف نظرات هاني طويلاً على الخد الناعم للفتى، ويستمر في تأمل الصفحة البيضاء الصافية تحت بقعة الضوء المسلّطة عليها من سقف الطائرة، ويسترجع ذكرى المرة الأخيرة التي دخل فيها تلك السينما وشاهد فيلماً هندياً، وأخذته الحماسة للبطل الذي نجح في تحرير حبيبته من قبضة الأشرار، وحين علا التصفيق في صالة السينما تحية للبطل، أدخل هاني أصابعه النحيلة في فمه وأطلق صفرة طويلة حادة كمن ينفخ في زامور، ويبدو أن الصفير المدوّي قد اخترق أذن الرجل الجالس أمامه؛ رجل ضخم برأس كبير يحجب الرؤية عنه، انتفض واقفاً واستدار بوجهه المعتم نحو الفتى المزعج وهوى على خده بصفعة مؤلمة من أصابعه الغليظة. يفقد هاني حماسته للفيلم، ويستكين في مقعده خلف الرأس الكبير والدموع تسحّ من عينيه، ومن دون أن يشاهد تتمة الفيلم، ويترسّخ لديه اقتناع بأن الأبطال لا يظهرون في الوقت المناسب إلّا في أفلام، فيكفّ عن ارتياد دور السينما ويكرّس كل وقته لجمع الخردوات.
يتحسّس هاني خده ويبدأ بتناول عشائه بيد واحدة وهو يشاهد فيلماً أميركياً عن ولد في العاشرة من عمره تقتل المافيا أمه وتطارده لأنه الشاهد الوحيد على جريمة ارتكبها بعض رجال العصابة، فيتطوع لحمايته رجل غامض، ويقتل بضعة أشرار بسهولة، وأثناء هروبهما معاً يستقلان طائرة مسافرة إلى ولاية أخرى، ويغفو الرجل الغامض بينما الولد يعبث في الأزرار، ويستيقظ في اللحظة المناسبة ليسحب، بحركة خاطفة من أصابعه القوية، المسدس من يد المضيفة المبتسمة قبل أن تسدده إلى رأس الولد، وتدور معركة دموية في ممرات الطائرة تنتهي بمقتل حفنة أخرى من الأشرار المُتَخفّين في ثياب المضيفين، وأثناء ذلك يختبئ الولد تحت المقعد ويبدأ بمص إصبعه إلى أن يغلبه النوم، ويسيطر الرجل الغامض على الطائرة ويدخل حجرة القيادة ويهبط بها بسلام. وفي نهاية الرحلة يستيقظ الولد من نومه الطويل ويرفع رأسه عن كتف السيد هاني الخَدِرة ويقول له من بين شفتيه المبللتين باللعاب:
- شكراً على كل شيء.
اقرأ أيضًا: سبورة مِس هدى
يفرد هاني أصابع يده اليسرى القريبة من وجه الولد فيراها قصيرة سمينة مبقّعة بالندوب، ويحاول خلع الخاتم الذهبي العريض من بنصره فلا يتمكن، وتسري في بدنه قشعريرة وهو يتخيّل نفسه ممسكاً بمنشار للحديد يبتر به إصبعه ثم ينادي المضيفة ويطلب منها بلطف أن ترميه والخاتم الملطخ بالدماء في مرحاض الطائرة.
تبتسم المضيفة وتسأله بالإنجليزية:
- هل يرغب ابنك في العشاء؟
- نوم الظالمين عبادة. أجاب بالعربية وهو يثبّت السماعتين فوق أذنيه.
تتردد المضيفة قليلاً ثم تمد أصابعها الرشيقة من فوقه وتلمس رأس الفتى فلا يستيقظ، فتتركه يكمل رضاعته وتواصل دفع عربة الطعام الثقيلة نحو المقاعد الخلفية.
اقرأ أيضًا: كلاب حراسة
ينظر هاني إلى صينية العشاء النظيفة أمامه ويتذكر المذاق السكري اللذيذ الممزوج بالتراب وصدأ الحديد بعدما يمصّ أصابعه النحيلة بعد الانتهاء من أكل قطعة الهريسة الدَّبِقة. قبل ثلاثين سنة كان يجرّ عربة خشبية بحبل مهترئ، وعجلات حديدية ذات صرير مزعج، يسحبها في حارات عمان الشرقية، ويمرّ بها على ورش البناء ليجمع المسامير الحديدية المنحنية التي تفرّ من تحت مطارق البنّائين. وفي صبيحة يوم الجمعة ينزل إلى سقف السيل فيشتري ساندويتشة وقطعة حلوى وتذكرة لسينما (الحمراء) ويدخل في العتمة ليشاهد ثلاثة أفلام متواصلة.
ينظر هاني إلى وجه الولد الغارق في النوم، ويتأمل ملامحه الهجينة؛ أهداب عربية طويلة تغطي عينين آسيويتين مسحوبتين، وبشرة سمراء على وجه مسطح مستدير المحيّا وأنف صغير وشفتان بارزتان وشعر غزير خشن. وينعم النظر في أظافره الشفافة وأصابعه النظيفة المتصلة عبر إبهامه بشفتيه الطريتين، فيبدو كأنه ينفخ نغمة هادئة في بوق، وتتوقف نظرات هاني طويلاً على الخد الناعم للفتى، ويستمر في تأمل الصفحة البيضاء الصافية تحت بقعة الضوء المسلّطة عليها من سقف الطائرة، ويسترجع ذكرى المرة الأخيرة التي دخل فيها تلك السينما وشاهد فيلماً هندياً، وأخذته الحماسة للبطل الذي نجح في تحرير حبيبته من قبضة الأشرار، وحين علا التصفيق في صالة السينما تحية للبطل، أدخل هاني أصابعه النحيلة في فمه وأطلق صفرة طويلة حادة كمن ينفخ في زامور، ويبدو أن الصفير المدوّي قد اخترق أذن الرجل الجالس أمامه؛ رجل ضخم برأس كبير يحجب الرؤية عنه، انتفض واقفاً واستدار بوجهه المعتم نحو الفتى المزعج وهوى على خده بصفعة مؤلمة من أصابعه الغليظة. يفقد هاني حماسته للفيلم، ويستكين في مقعده خلف الرأس الكبير والدموع تسحّ من عينيه، ومن دون أن يشاهد تتمة الفيلم، ويترسّخ لديه اقتناع بأن الأبطال لا يظهرون في الوقت المناسب إلّا في أفلام، فيكفّ عن ارتياد دور السينما ويكرّس كل وقته لجمع الخردوات.
يتحسّس هاني خده ويبدأ بتناول عشائه بيد واحدة وهو يشاهد فيلماً أميركياً عن ولد في العاشرة من عمره تقتل المافيا أمه وتطارده لأنه الشاهد الوحيد على جريمة ارتكبها بعض رجال العصابة، فيتطوع لحمايته رجل غامض، ويقتل بضعة أشرار بسهولة، وأثناء هروبهما معاً يستقلان طائرة مسافرة إلى ولاية أخرى، ويغفو الرجل الغامض بينما الولد يعبث في الأزرار، ويستيقظ في اللحظة المناسبة ليسحب، بحركة خاطفة من أصابعه القوية، المسدس من يد المضيفة المبتسمة قبل أن تسدده إلى رأس الولد، وتدور معركة دموية في ممرات الطائرة تنتهي بمقتل حفنة أخرى من الأشرار المُتَخفّين في ثياب المضيفين، وأثناء ذلك يختبئ الولد تحت المقعد ويبدأ بمص إصبعه إلى أن يغلبه النوم، ويسيطر الرجل الغامض على الطائرة ويدخل حجرة القيادة ويهبط بها بسلام. وفي نهاية الرحلة يستيقظ الولد من نومه الطويل ويرفع رأسه عن كتف السيد هاني الخَدِرة ويقول له من بين شفتيه المبللتين باللعاب:
- شكراً على كل شيء.