الأسباب الحقيقية لإعلان 1988

24 نوفمبر 2018
مثل إعلان الاستقلال اعترافا ضمنيا في إسرائيل (Getty)
+ الخط -
شكل إعلان الدولة في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1988 لدى قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني في حينه عوضاً عن أنصار منظمة التحرير في الأرض المحتلة والشتات، الانطلاقة الكبرى لمشروع الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في خضم انتفاضة الحجارة، وبعد أكثر من عقدين من تدشين مرحلة الكفاح المسلح، وثمرة للتضحيات الجسام على طريق التحرير والوصول إلى هدف الدولة، غير أن الواقع لم يكن كذلك، وإعلان وثيقة الاستقلال والدولة المستقلة لم يكن سوى الغطاء والساتر الدخاني لقرارات أهم بكثير من مسألة إعلان الدولة، وهي قرارات تعلقت بجوهر القضية الفلسطينية وتمس الحقوق والثوابت التاريخية للشعب الفلسطيني، تمثل هذا الغطاء في الاعتراف الصريح بقراري مجلس الأمن 242 و338 بعد حرب عام 1967 وحرب عام 1973، والاعتراف ضمناً بإسرائيل وأحقيتها في الوجود ونبذ العمل المسلح "الإرهاب"، في مقابل فتح أبواب الحصار الموصدة بإحكام أمام منظمة التحرير الفلسطينية مع الإدارة الأميركية للشروع في حوار للتوصل إلى حل سلمي، وهذه ليست مطالب من الإدارة الأميركية بل شروط لا تقبل التفاوض لا شكلاً ولا مضموناً.
بدأت حكاية الاعتراف الجدي بالشروط الأميركية عام 1986 بعد أن قرر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السابعة عشرة "دعوة اللجنة التنفيذية لوضع خطط بفتح خطوط اتصال فلسطينية مع الدوائر اليهودية أو الإسرائيلية المؤيدة لقضية وفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة"، القرار فتح المجال واسعاً لعدة مسارات سرية للحوار مع الإدارة الأميركية بطريقة غير مباشرة، كانت هناك قنوات سرية سابقاً بعد عام 1974 ولكنها في حدود ضيقة جداً مع هامش مناورة لا يتسع لتطلعات القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة، وعلى أثر القرار في الدورة السابعة عشرة تشكلت على الأقل ثلاث قنوات سرية، ترأس إحداها محمود عباس مع "مناصري السلام" أو اليسار الصهيوني في المجتمع الإسرائيلي، وأخرى أدارها مندوب منظمة التحرير في القاهرة سعيد كمال وبتواصل مع إسرائيليين في القاهرة، بينما عمل مستشار ياسر عرفات بسام أبو شريف في قناة ربما الأهم، وقنوات أخرى في عواصم غربية أقل أهمية.
بعد حركة نشطة سرية لأكثر من عامين من اتصالات وتبادل رسائل مباشرة وغير مباشرة بينما الانتفاضة الفلسطينية في أوج عنفوانها، بدأت في صيف عام 1988 تتبلور قناعة راسخة لعرفات ولقيادة حركة فتح المتلهفة للانخراط في مشروع التسوية بأن الشروط الأميركية (قراري مجلس الأمن 242 و338، الاعتراف بإسرائيل، "نبذ الإرهاب") هي المفتاح لأي بوابة حوار، وهي التي يجب الاعتراف بها صراحة دون أخذ ورد، أو إضافة أو نقصان، وشهد شهر أيلول/ سبتمبر اتصالات نشطة ومكثفة بين عرفات ومساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ريتشارد مورفي من خلال قناة المستشار السابق في مجلس الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر وليام كوانت والتي أبدى فيها رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عرفات استعداده للقبول بالشروط الأميركية.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في تمرير قبول قيادة منظمة التحرير للشروط الأميركية على الشعب الفلسطيني المنتفض، والفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير المعارضة لنهج التسوية من الأساس، أو مؤيدة لمشاريع الواقعية السياسية لكنها ترفض تماما الاعتراف بإسرائيل أو قراري 242 و338.
ضغط الوقت وتسارع الأحداث والحماسة لدى قيادة حركة فتح باستثمار الانتفاضة و"توفير غطاء سياسي"، لم تدع مجالاً للانتظار والانشغال في تهيئة القواعد والتوافق مع المعارضين في المنظمة، فرغم التصعيد الإسرائيلي والتنكيل بشعب الانتفاضة، إلا أن الروح الوطنية المتقدة لم تكن لتقبل بالإملاءات الأميركية، ولم يتستر اليسار الفلسطيني بضعف وبوادر انهيار الحليف السوفييتي ليبرر الاعتراف بالقرارين 242 و338، طبعاً باستثناء الحزب الشيوعي الفلسطيني وأقلية من قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين القريبة من عرفات، أو أنصار الواقعية السياسية، كما يعرفون أنفسهم، وهم ياسر عبد ربه، ممدوح نوفل، جميل هلال، عصام عبد اللطيف، لذلك كانت فكرة إعلان وثيقة الاستقلال وقيام دولة فلسطين خلال دورة المجلس الوطني مع تضمين الشروط الأميركية بطريقة مواربة في البيان السياسي لقرارات الدورة تكاد تختفي مع صخب وهيجان إعلان الدولة. كلف عرفات شاعر الثورة محمود درويش بإعداد وثيقة الاستقلال والتي سيتلوها عرفات في اليوم الأخير لدورة المجلس الوطني في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 (الدورة امتدت من 12 إلى 15).
رغم رصانة الوثيقة وقوة كلماتها وثراء تعبيراتها وملامستها لقلوب الشعب الفلسطيني، إلا أن الأهم من الوثيقة، البيان السياسي الذي تضمن قرارات الدورة والذي ستبني عليه قيادة فتح تحركها السياسي، جاء في فقرة التحرك السياسي: "إن المجلس الوطني من موقع المسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني يؤكد عزم منظمة التحرير الفلسطينية على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، في إطار ميثاق الأمم المتحدة ......، بما يضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته .......، آخذين بالاعتبار أن المؤتمر الدولي الفعال الخاص بقضية الشرق الأوسط تحت إشراف الأمم المتحدة وبمشاركة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وجميع أطراف الصراع في المنطقة، آخذين بعين الاعتبار أن المؤتمر الدولي ينعقد على قاعدة قراري مجلس الأمن 242 و338".
لم تنطل الفكرة على فصائل منظمة التحرير، فقد عارضتها منظمة الصاعقة والجبهة الشعبية القيادة العامة وجبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير العربية، بينما اكتفت الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش بتأييدها لوثيقة الاستقلال، مع تسجيل اعتراضها على الفقرات في البيان السياسي المتعلقة بالاعتراف بإسرائيل والقرارين 242 و338، وأيدتها الجبهة الديمقراطية بضغط من عرفات والأقلية القريبة من حركة فتح، لكن زعيم الجبهة نايف حواتمة تنصل منها بعد انفضاض دورة المجلس بعد أيام بل وهاجمها.
الإدارة الأميركية، وهي الجهة المستهدفة بالأساس من مخرجات دورة المجلس الوطني وبالتحديد المتعلقة بالشروط الأميركية، لم تكن راضية عن تلبية الشروط بطريقة مواربة أو بالتلميح، فكان الإصرار الأميركي على تلبية الشروط بشكل مباشر وواضح بعيداً عن التلميح، وهو ما كان في جنيف بعد شهر من دورة المجلس الوطني، حيث أعلن عرفات في مؤتمر صحافي في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر عن الاعتراف الواضح بالشروط من خلال نص أعده وزير الخارجية الأميركي جورج شولز وتم تمريره عبر وزير الخارجية السويدي ستيفن أندرسون.
المساهمون