"سيظلّ الأزهر دائماً منارة للوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي"، مقولة جاهزة تتردّد في تظاهرات رسمية لا يلزم تنظيمها سوى ترتيب نشاط "فكري" أو "ثقافي" يتناوب على إلقاء الخُطب فيها مسؤول من الأزهر وآخر حكومي، وربما حضرها أحد الضيوف من خارج مصر، فيُصنّف حينها كفعالية دولية.
التوظيف المشروط والمكشوف للمؤسسة الدينية التي تأسست عام 970 م، غايته الأساسية إظهار السلطة بوصفها راعيةً للاسلام المتسامح والمنفتح، في وجه خصومها من التيارات الدينية التي تنعتها بالتعصّب.
وكذلك من أجل احتواء البسطاء من المتديّنين، والذي يبوء بالفشل نظراً إلى التفاف مئات الآلاف حول العديد من رجال الدين المتشدّدين (والمعادين للأزهر) والمواظبة على متابعة برامجهم التلفزيونية وصفحاتهم على وسائط التواصل الاجتماعي، بينما غالبية الأزهريين لا يجدون متابعين ومريدين لهم.
في هذا السياق، قدّمت فرقة "صالون الأزهر الثقافي" التابعة للجامعة قبل أيام أوّل عرض مسرحي من إنتاجها بعنوان "علومولوجي" والذي تعقبه فقرات غنائية وشعر وإنشاد حيث "مزيج بين الضحك والحزن وبين ما هو ديني ودنيوي"، بحسب المنظّمين.
المسرح يأتي بعد شهور من تنظيم أول معرض للكتاب في "جامعة الأزهر" في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والذي افتتحه وزير الثقافة المصري حلمي النمنم، واعداً بـ"تنظيم معرض كلّ شهر في فروع الجامعة في المحافظات"، ثم جاء الإعلان عن تخصيص أول جناح للأزهر في "معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي اختتم في شباط/ فبراير المقبل.
وبالطبع، فإن الجناح الأزهري في المعرض رفع يافطة "السلام المجتمعي، ومحاربة الفكر المتطّرف، والعمل على إرساء قيم المواطنة والحفاظ على الهوية والثقافة المصرية"، غير أن كثيرين أبدوا استغرابهم من عرضه كتباً لا تزال تعادي مذاهب بعينها وتميّز ضدّ المرأة وتتضمّن فتاوى صادمة أو متشدّدة أطلقها أزهريون في السنوات الأخيرة.
ماذا يُنتظر من مؤسّسة أجهضت فيها كلّ محاولات التجديد بمباركة السلطة طوال العقود الماضية؟ ربما يجدر هنا استحضار نموذجين إصلاحيين مختلفين حدّ التناقض لكنهما اصطدما بجدار الفشل؛ الأول أستاذ الفلسفة مصطفى عبد الرازق (1885 – 1947) الذي عيّن شيخاً للأزهر عام 1945، ويرحل بعدها بعام وشهرين من دون أن يحقّق حلمه بإصلاح التعليم في واحدة من أعرق الأكاديميات الإسلامية.
أيّد عبد الرازق الاختلاط في التعليم، وعدم فرض الحجاب على المرأة، إذ آمن بنمط عيش عصري ومنفتح على الآداب والفنون، وكان من أشدّ المعجبين بأم كلثوم، وجمعته صداقة بالنحات محمود مختار، ويُروى عنه تشجيعه مي زيادة لنشر مؤلّفها الأول، وعلاقته الاستثنائية مع طه حسين، وانتمائه إلى المدنية منظومة قيم وحكْم.
لم يستطع صاحب "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" أن ينفّذ أي من أفكاره، وتحوّل إلى مجرّد أيقونة تستعيدها السلطة باعتباره أحد رموز التنوير، الذي لم ولن يقبله الأزهر يوماً، أما الثاني فهو أستاذ الفلسفة محمد البهي (1905 – 1982) الذي كان يؤمن بتجديد الخطاب الديني من داخله منتمياً إلى طروحات محمد عبده.
عُيّن البهي عام 1962 وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر، وقد عُرف عنه الصرامة والنزاهة في الإدارة، وخصومته الشديدة للخط التقليدي داخل الجامعة وكذلك لحركات الإسلام السياسي، وهو ما جعله يتحرّك في وسط من الأعداء حتى أقيل من منصبه عام 1964، وفُرضت عليه الإقامة الجبرية بمنزله وانقطع عنه الزوّار.
محاولات إصلاحية متعدّدة عاشها الأزهر حُكم عليها بالفشل، ولم يبق منها اليوم سوى مظاهر شكلية باتت محكومة بشكل أوثق للمؤسسة الرسمية، ولجهات خارجية أيضاً.