الأردن الافتراضي

08 نوفمبر 2018
+ الخط -
أثار مقال نشر على نطاق واسع، للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، عن مواقع التواصل الاجتماعي، جدلا واسعا في البلاد، في ظل تنامي قوة وسائل التواصل الاجتماعي وسطوتها، وقدرتها على صناعة الرأي العام. وجاء مقال الملك على شكل سؤال "وسائل التواصل الاجتماعي أم وسائل التناحر الاجتماعي؟"، مناقشا دور التكنولوجيا، إن كانت في خدمة البلاد، من خلال نشر الإيجابيات والإنجازات الوطنية أو عامل هدم من خلال اغتيال الشخصية ونشر الشائعات، وجاء الملك على عائلته الصغيرة التي تتعرّض لنقد كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، معتبرا أن من ينال من عائلته الكبيرة أو الصغيرة ينال منه شخصيا.
لعل أهمية المقال تأتي في أثناء مناقشة البرلمان الأردني مشروع قانون معدل لقانون الجرائم الإلكترونية الذي أقر في العام 2015، في محاولةٍ رسميةٍ للحد من تأثير هذه التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي وسطوتهما، وتحديدا "فيسبوك" و"تويتر"، من خلال سلسلة من العقوبات التي تطاول من "يسيء" عبر العالم الافتراضي. أما الزاوية الأخرى التي يكشفها المقال الملكي فهي تنامي قوة هذه الوسائل وقدرتها على صناعة الرأي العام، في ظل عجز المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة عن قيادة الرأي العام الذي يسيطر عليه الغضب والتشاؤم، في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، ويثور سؤال صناعة الرأي العام في الأردن اليوم.
وفي محاولة لقراءة تاريخية لصناعة الرأي العام في الأردن، لا بد من الإضاءة على مسار تشكله، وأبرز المحطات التي مر بها. .. تأسست أولى الصحف الأردنية في مطلع القرن 
الماضي، "الحق يعلو" في العام 1921، وكانت ناطقة باسم الثورة العربية الكبرى ومشروعها، وما يعرف في تاريخ الأردن عن رجالات العهد العثماني وحزب الاستقلال السوري، لتبقى الصحف الأردنية تتناول الصراعات العربية والإقليمية طوال عهد الإمارة التي كانت القضية الفلسطينية عنوانها الرئيس، وشغلها الشاغل، مع مساهمتها المتواضعة آنذاك، بفعل ضعف البنية التحتية، وانتشار الأمية.
انتقل الأردن إلى الملكية في العام 1946، ومع إقرار دستور عام 1952 بمضامين ومواد تنص صراحة على التعدّدية السياسية وحرية الرأي والتعبير، إلا أن قوة الثورة المصرية وقوة مشروعها وإذاعتها وتبلور جيلٍ يؤمن بالأفكار الكبرى بشأن الوحدة والحرية والاشتراكية، إضافة إلى كاريزما الزعيم، أبقت الرأي العام الأردني متأثرا بقوة "إذاعة القاهرة" وخطابها، ليتوج المزاج العام بفوز الحزب الاشتراكي بانتخابات عام 1956، ويتم تشكيل أول حكومة برلمانية في البلاد يرأسها سليمان النابلسي، والتي ما إن أطيحت بعد أقل من عام حتى انتقل الأردن إلى الأحكام العرفية، وانتهت التعدّدية السياسية، وبات الرأي العام تصنعه الماكينة الرسمية وفق صيغةٍ شموليةٍ فرض سطوتها على كل مناحي الحياة، ليتم تأسيس صحيفة الدستور في 1967، ثم صحيفة الرأي في 1971 والتي كانت تمثل خطاب الدولة، بعد تداعي المشروع الناصري بعد هزيمة 1967.
بقيت صناعة الرأي العام حكرا على الإعلام الرسمي في الأردن، حيث كان التلفزيون الأردني والإذاعة والصحافة الأردنية الموجه للنقاش العام، وفيه تصنع القضايا الوطنية، حيث كانت نشرة أخبار الثامنة على المحطة الأرضية الأردنية المصدر الأوسع انتشارا في البلاد طوال عقود.
وشكلت هبة تشرين (أكتوبر/ تشرين الأول) في العام 1989 عنوانا لنهاية عهد الشمولية، مع انتقال البلاد إلى إنجاز أول انتخابات برلمانية، والتي أقر فيها البرلمان قوانين عديدة حلت مكان القوانين العرفية، من أهمها إطلاق حرية النشر والتعبير، لتصبح الصحافة الأسبوعية والحزبية إحدى مؤسسات صناعة الرأي العام الأردني، إلا أن اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية في 1994، وتداعيات فشلها، أعادا البلاد إلى مزاج الأحكام العرفية، في ظل تنامي نفوذ الإسلام السياسي وقوته، ما دفع النظام السياسي إلى إقرار قانون المطبوعات والنشر في 1998، ما أدى إلى إغلاق عشرات الصحف الأسبوعية، في الوقت الذي نشأت أول صحيفة يومية أردنية مستقلة (العرب اليوم) التي كانت عنوان الجيل الجديد من الصحافيين الذين تخرّجوا في مدرسة الصحافة الأسبوعية.
وفي محاولة لتجاوز التضييق الرسمي على الصحافة الورقية، بدأت المدوّنات الإلكترونية، ومن ثم المواقع الإخبارية الإلكترونية، تمتلك القدرة على التأثير وصناعة الرأي العام مع تأسيس 
صحف إلكترونية بداية من عام 2007، أي بعد نحو عقد من خنق الصحافة الأسبوعية. وبدأت المواقع الإخبارية تؤثر في صناعة الرأي العام، بشكل أكثر قوة ومصداقية، نتيجة سرعة نشرها الخبر، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، حيث أظهرت بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي أن نحو 51% من الأردنيين يمتلكون هواتف ذكية. وبينت إحصاءات الاتحاد الدولي للاتصالات أن المعدل العالمي لانتشار الإنترنت لكل مائة مستخدم سجل 41%، فيما سجل الأردن نحو 53%.
وقد فتح انخراط الأردنيين في عصر التكنولوجيا ووسائل الاتصال هامشا كبيرا للتعبير وحرية الرأي، ما دفع الحكومة إلى إعداد قانون لمحاصرة هذه الظاهرة الناشئة، بقانون الجرائم الإلكترونية الذي أقر في مطلع العام 2015، وكان يستهدف، في الأساس، الصحافة الإلكترونية وحرية التعليقات والتفاعل عليها. والحكومة اليوم بصدد إقرار قانون من أجل شمول مواقع التواصل الاجتماعي بمظلة التجريم والرقابة، في محاولة لمحاصرة الرأي العام الأردني ووسائل صناعته، حيث يقر المسؤولون الأردنيون بأن الإعلام الرسمي والخاص في حالة عجز مطبق.
وقد كان الرأي العام الأردني طوال العقود الماضية عصيا على الضبط والاحتواء. وجاء ما حدث عام 1989 تعبيرا عن أن الإعلام الرسمي ومحاولة صياغة الرأي العام الأردني يواجهان بالفشل، إضافة إلى اتخاذ صناعة الرأي العام الأردني مساراتٍ ودروبا في تملص تاريخي من قبضة الرقابة ومحاولة السيطرة التي يعكسها ذلك المسار المتعرّج من التشريعات والقوانين التي كانت تتحول، مع مرور الزمن، هي وبنيتها المهيمن عليها، إلى أطلال لا يحفل بها الأردنيون. ويقف الأردن الرسمي اليوم عاجزا أمام سطوة التاريخ، وسطوة التكنولوجيا وأدواتها، وأدوات عيشهم ومواردهم وصناعة رأيهم العام. .. وهناك أردن افتراضي اليوم، وهو في طريقه إلى أن يصبح واقعا عما قريب.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا