الأتراك العثمانيون تركوا سيدنا عثمان
يقول كتاب "الجفر": "أترك الترك ما تركوك، فإن أحبوك أكلوك، وإن أبغضوك قتلوك". ويبدو أنها المرة الأولى، التي يصدق فيها كتابٌ قيامي من هذا العيار. وهذه "الحكمة" تكاد تنطبق، اليوم، أكثر ما تنطبق، على حال العرب والأكراد تماماً؛ فالشعبان يقفان حائرين أمام مفترق طرق حاسم، ويشرفان على اجتياز مرحلة خطرة جداً من مراحل تاريخهم المليء بالظلم والاضطهاد والحروب.
وقد آن الأوان في عصر انكماش العالم، وفي عصرِ تمزُّقِه في الوقت نفسه، وفي حقبة انحسار مفاهيم السيادة، أن ننزع من رؤوسنا الجموح القومي الكردي، الذي انتعش غداة سقوط بغداد في 9/4/2003، وننزع معه "الاستلشاق" القومي العربي بالقوميات الأخرى، ونحيل هذه البقايا إلى مستودع الأشياء العتيقة.
إن جميع الأفكار والحركات والجماعات، التي كثيراً ما دعت إلى، وعملت في، سبيل الحكم الذاتي أو الكونفدرالية أو الفدرالية أو الانفصال، يمكن أن تطيح بها وقائع الميدان المفاجئة، أو منظمات عجيبة، مثل "داعش"، في أيام قليلة، وهذا ما يجري أمام عيوننا في العراق وسورية، وبالتحديد في المناطق الكردية.
والواضح أن صعود الدور التركي في المنطقة لم يبدأ مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 3/11/2002، بل مع سقوط العراق في سنة 2003، الأمر الذي منح إيران مكانة أفضل. وفي هذه الأحوال، باتت أحلام الأكراد قريبة من التحقق، أو هكذا خُيّل إليهم. وفي هذه الأهوال، عمل الأكراد على توظيف مظلوميتهم في ظلم العرب، ليستفيقوا، اليوم، ولا أحد يناصرهم إلا بعض العرب، وأنا منهم.
الجميع شبع من لحمنا، لكن العرب والأكراد وحدهم جاعوا، غير أن عسر الهضم بدأ يفعل فعله بسرعة، فالأتراك ليسوا، اليوم، في ذروة موقعهم، وأحلام الأكراد تكاد تتلاشى. وفشل الإيرانيون في إرساء نظام متين لهم، لهذا، ما برحوا يلعبون أوراقهم في حقولٍ مشتعلة ومتغيرة، كالشيعة في العراق والبحرين ولبنان، والحوثيين في اليمن، والنظام الحاكم في سورية، وهذه كلها أوراق قابلة للتبدد في أية لحظة.
ولهذا، يبدو أن تفاهماً عربياً – كردياً بات ضرورياً جداً اليوم، تفاهماً يتضمن السعي إلى إعادة تأسيس مجتمعاتنا ودولنا على قاعدة المواطنة المتساوية والديمقراطية وقيم الليبرالية والعدالة الاجتماعية... وطن واحد بقوميات عدة وبثقافات متعددة. أما المراهنة على تركيا تارة، وعلى الولايات المتحدة تارة أخرى، فكانت وبالاً.
فتركيا لم تتمكن من تقديم العون للبوسنيين المسلمين، أو للمسلمين في كوسوفو، أو للأتراك في بلغاريا ومقدونيا، ولم تستطع حل مشكلة الأتراك في قبرص، أو المسألة الكردية في تركيا نفسها، ولم تحلّ خلافها مع اليونان على ملكية بعض الجزر في بحر إيجه... فهل تستطيع أن تحمي الأكراد في العراق وسورية اليوم؟
أسفر اردوغان وحكومته عن انتهازية فاقعة، وعن نفاق غير محدود، فَتَرَكَ الأكراد يواجهون وحدهم مصيرهم في عين العرب. وتبين أن الكلام الكثير الذي نثره، هنا وهناك، عن التزامه بمنع سقوط عين العرب بين أيدي معتوهي "الدولة الاسلامية" كان "تفشيطاً"، وكل ما يريده اردوغان هو ضمان مكانة سياسية كبيرة لتركيا في المشرق العربي، وعائد اقتصادي يتلاءم مع هذه المكانة، والتحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي.
في مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة سنة 1964، وكان الرئيس جمال عبد الناصر على خلاف جلي مع الأتراك، رغب أحد الصحافيين اللبنانيين، في الثرثرة مع سائق السيارة، فسأله: لماذا في رأيك تقف تركيا ضد مصر؟ فأجابه السائق: "ما هُمَّ دول ولاد خيبة. سموهم الأتراك العثمانيين لأنهم تركوا سيدنا عثمان... ". فلا غرابة إذاً في تركهم الأكراد في عراء الجبال.