مع بدايات الألفية الثالثة، غزت العالم أشكال جديدة من المنتجات التكنولوجية، متعددة الاستخدمات؛ خفيفة الوزن، وأحيانًا غير ملموسة (افتراضية)، أوضح الأمثلة عليها هواتفنا الذكية، صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، والكارد الرقيق الذي يحتفظ بأطنان من الذاكرة... هذه ليست منتجات الاقتصاد الصناعي التقليدي، إنها منتجات الاقتصاد الجديد الذي أطلق عليه اسم "اقتصاد المعرفة" ومهدّت الثورة التكنولوجية واستخدام شبكة الإنترنت في ستينيات القرن العشرين لظهوره، والذي يعتمد على المعرفة والعقل البشري كرأسمال أولي، من أجل تصنيع المنتجات المعرفية (الأجهزة إلكترونية، التطبيقات والبرمحيات...إلخ)، التي تتطلب في المقابل كفاءة تكنولوجية ومعرفية لاستهلاكها وتحقيق الاستفادة القصوى منها، وهذا ما يفسر أن المعرفة في هذا الاقتصاد هي سلعة ومنتج في آنٍ واحد.
رأسمالي أم اشتراكي؟
السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهننا عند الحديث عن اقتصاد المعرفة: إلى أي من نوعي الاقتصاد الرأسمالي أم الاشتراكي ينتمي هذا الاقتصاد الجديد؟ لا سيما وأن ثنائية رأسمالي/ اشتراكي من الثنائيات الأساسية التي لا يمكن لأي باحث أو أكاديمي تجاهلها عند تفسير أي حدث اقتصادي، سياسي، أو اجتماعي.
بدايةً، يبدو بديهيًا تصنيف اقتصاديات المعرفة كوجه متطور عن الليبرالية الجديدة، التي نتج عنها رفع القيود عن التجارة بين الدول وحرية حركة رؤوس الأموال، وكانت حجر الأساس للتجارة الإلكترونية التي تعد واحدة من أهم آثار اقتصاديات المعرفة في وقتنا الحالي. أما العامل الآخر الذي يؤكد اعتقادنا الأولي؛ هو تمركز الثروة المعرفية بأيدي الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي وصل فيها الإنفاق على تطوير الأبحاث والتنمية-أحد مؤشرات اقتصاديات المعرفة- إلى 485.39 بليون دولار أميركي في عام 2014، بحسب مجلة R&D (شتاء/2016). هذه المبالغ الطائلة تؤكد لنا رأسمالية اقتصاد المعرفة التي ستحتم علينا الانقسام إلى دول مصنعة للمنتجات المعرفية وأخرى مستهلكة لها. لكن هذه المسّلمة -رأسمالية اقتصاد المعرفة- بحاجة إلى إعادة النظر بجوهر المعرفة أولًا، وبخواص اقتصاد المعرفة ثانيًا.
التشاركية والوفرة
المعرفة سلعة عامة، اقتناؤها ليس مرتبطًا بالقدرة الشرائية للفرد، بل بطاقاته وقدراته العقلية، وهي سلعة غير قابلة للاستهلاك؛ أي أن صلاحيتها لا تنتهي عند استهلاكها مثل قطعة ثياب أو قطعة طعام، وما يطلق عليه الفيلسوف والناقد السلوفيني سلافوي جيجك في مقابلة له على قناة اليوتيوب The Zizek Times "مفارقة المعرفة"، مردّه إلى الخاصّية الجوهرية في المعرفة وهي أنها تشاركية، أي إن قيمتها تزداد بازياد عدد المستهلكين لها، لذلك احتكارها عملية غير مجدية. وبحسب جيجك، فالمعرفة سلعة مضادة- للرأسمالية anti-capitalist بطبيعتها، إلا أن ما يمكن احتكاره وخصخصته، من قبل الدول الكبرى المهيمنة على اقتصاد المعرفة، هو العقول المنتجة للمعرفة (عمّال المعرفة).
أما الخاصّية الثانية التي تدفعنا لإعادة النظر برأسمالية اقتصاد المعرفة، هي أنه اقتصاد وفرة، والتنافس الاقتصادي بسبب ندرة الموارد مقابل الحاجات البشرية اللامنتهية التي واجهت الاقتصاد التقليدي، لا وجود له في الاقتصاد الجديد لأن المعرفة لا تنضب. والكم الهائل من المعلومات التي أصبحت متاحة للجميع، سينعكس إيجابًا على حرية الخطاب المعرفي في المجال الفكري، وحرية التجريب في المجال التقني والعلمي. لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن المعلومات المتاحة لا تصنع وحدها المعرفة؛ فالمراهنة هي على الجوع للمعرفي الذي يعتبر المحرك الأساسي في الطلب على المعلومة وربطها بغيرها من أجل تكوين المعرفة.
المعرفة الحقيقة
هذا الاقتصاد الرشيق، النظيف والذي تشكل المعرفة مركز الثقل فيه، يضعنا في مواجهة مجموعة من القضايا الشائكة، أهمها علاقتنا كأفراد من الدول الفقيرة النامية بالدول الكبرى التي ينطوي إنتاجها في المجال المعرفي والتكنولوجي على إعادة تصنيع وتصدير المعرفة – كما هو الحال عند تصنيع أي منتج- ضمن قوالب وشروط تتناسب مع تطلعاتها الاقتصادية والسياسية. وإذا كانت المعرفة عبر العصور إحدى أهم الشروط الضامنة للسلطة والحكم، فهي الآن مصدر للقوة وإخضاع الآخر أكثر من أي وقت مضى. لذلك نحن بأمس الحاجة للتمييز بين المعرفة السطحية والمعرفة الحقيقية التي لا تختزل بالكفاءة التكنولوجية أو قراءة الكتب، المعرفة الحقيقة التي ترتكز على بناء العلاقات بين الحقائق وتحليلها ولا تقف عند حدود السلعة والمنتج.
تشاركية المعرفة ووفرة اقتصاد المعرفة هي ثغرات بنيوية وجوهرية في الاقتصاد الجديد، لكنها لن تتيح لنا منافسة السوق العالمي في المنتجات المعرفية والتكنولوجية، وذلك ربما أمر قليل الأهمية مقارنةً مع حاجتنا الملحّة في استغلال هذه الثغرات لامتلاك الوعي الفردي والاجتماعي. لا يجب أن نشعر بالدونية بسبب عدم قدرتنا كمواطنين من الدول الفقيرة، نقضي يومنا في السعي اللاهث وراء لقمة العيش، على تقديم ابتكارات تكنولوجية متطورة، لكن الشعور الأخطر الذي يهددنا هو إحساسنا بالعجز عن إدراك المعرفة الحقيقية...إنها الوعي الذي سيسمح لنا بالفهم العميق لمحددات وشروط استهلاكنا للمعرفة وكيفية التحايل عليها، التشكيك بالثوابت وإعادة التفكير بالحقائق والمتغيرات من حولنا بعين الناقد...عندها يمكن أن نصبح متساويين أمام المعرفة.