استنساخ الاستبداد... من سورية إلى مصر

29 اغسطس 2015
خلال أحد خطابات بشار الأسد عام 2013 (فرانس برس)
+ الخط -
اعتقال الناس تعسفياً من بيوتهم، وأماكن عملهم والمقاهي، ومن ثم إخفاؤهم وإخراجهم إلى العلن لاحقاً بتهم مفبركة هي تقاليد أصيلة ﻷنظمة الحكم الاستبدادية الشمولية. وفي منطقتنا قطع عرابا الاستبداد أي النظامان الإيراني والسوري شوطاً في جعل هؤلاء المعتقلين مادة إعلامية تعتَبِر منها بقية الشعب.

الشابة آلاء مورلي، والتي غصت وكادت تبكي في جلسة تحقيق على الهواء، اعترفت بـ"نقل أخبار كاذبة وتضليل السوريين". كذلك الطفل شعبان عبدالله، ابن الثلاثة عشر عاماً، والذي أجبر على الاعتراف بـ"قنص خمسة وثلاثين جندياً من الجيش النظامي". سعيد خالد وعلي شبيشات أيضاً، أجبرهما النظام الإيراني على الاعتراف أمام الكاميرا بتفجير خط غاز في الأهواز ليحكم عليهما بالإعدام بعدها.



وفي مصر الانقلاب العسكري، ثمّة ديكتاتور جديد يسعى لاستحضار تجارب الاستبداد المجاورة إلى مصر. فلا تفوّت مخابراته الحربية فرصة استيراد الرداءة الأسدية وتطبيقها على المصريين. هكذا اختفى الناشط صهيب سعد لعدّة أسابيع ليخرج مع ثمانية آخرين في فيديو صادر عن الجيش المصري الشهر الماضي يعترفون فيه بتورطهم في خلية إرهابية.

سعد كان يجلس في المقهى مع أصدقائه، عندما انقضّ عليهم رجال بملابس مدنية واقتادوهم بسيارة بيضاء. مشهد اعتاده المصريون في الفترة الأخيرة خاصة في الأشهر بين أبريل/نيسان ويونيو/تموز، فقد تم توثيق أكثر من 160 حالة اختفاء قسري بحسب تقرير صادر عن "رويترز" منذ أسبوعين.

بعد خمسة أسابيع ظهر سعد مع ثمانية شبّان آخرين في فيديو من إنتاج المؤسسة العسكرية
يعترفون بتنفيذ أعمال "إرهابية". طالب العلوم السياسية في جامعة 6 أكتوبر، بدا هزيلاً وشاحباً، واعترف بتلقي مبلغ خمس وستين ألف جنيه (نحو 9 آلاف ومائتي دولار أميركي) لشراء سلاح، ليعطيه إلى عضو آخر في "الخلية" لتنفيذ عملية اغتيال. وقال شقيقه أسامة لـ"رويترز" إنه تعرض للضرب وللتعذيب بالكهرباء، بل إنه كان في السجن في وقت سابق بسبب عمله كمصور أثناء وقوع العملية المزعومة، إلا أن مصدراً في وزارة الداخلية صرح بأن وجود سعد في السجن لا ينفي تورطه في أعمال إرهابية.

الشبان التسعة في الفيديو ينتمون بمعظمهم إلى الفئة العشرينية من العمر، ومعظمهم من خريجي الجامعات والدراسات العليا، تم اعتقالهم وإخفاؤهم قسرياً من دون مذكرات قانونية. يؤكد أصدقاؤهم وأقرباؤهم أنهم ناشطون مدنيّون سلميّون كانوا قد عارضوا نظام المخلوع حسني مبارك وحكم الإخوان سابقاً، ومعظمهم لا يرتبط بجماعة الإخوان المسلمين. لكنّ نظام (الرئيس عبدالفتاح) السيسي العسكري - الأمني، يسعى لتصفية جميع معارضيه سياسياً ويشنّ حرباً باطلة على جماعة الإخوان المسلمين التي يوصفها الإعلام الرسمي ورديفه بالإرهابية. فإضافةً إلى قمع التظاهرات وقتل العشرات ووضع المئات خلف القضبان من دون محاكمات عادلة، يتم إخفاء الشباب وتعذيبهم ومن ثم جعلهم يعترفون أمام الكاميرات ضمن مونتاج رديء وكلام هلامي عن تهديد مقدرات البلاد والأمن القومي.



إخفاء المواطنين وإخراجهم على شاشات الإعلام ليعترفوا بتهم مفبركة هو فعل لا يقل شناعة عن القتل. وجه الضحية أمام الكاميرا واحد، هو وجه من فقد إرادته بشكل مطلق، واستسلم لقوة الاستبداد وبطشه. وجه الخيبة والارتكاس وصوت مختنق مهزوم لشباب صنعوا التغيير في مصر قبل أن ينقلب عليهم الجيش ويصبحون إرهابيين.

في النسخة "السيسيّة" من الاعترافات التلفزيونية المفبركة لا يقوم مُحقق إعلامي باستجواب المعتقلين على غرار النسخة "الأسديّة". ذائقة جمهور الانقلاب العسكري تُفضل شكل بيان الجيش على "ستايل": "الشرطة في خدمة الشعب السوري".

الفيديو الذي صدر عن الجيش المصري هو عبارة عن بيان مكتوب يظلّله العلم المصري ويتلوه صوت "رصين"، كثير الإِخطاء في اللغة. يُسمي البيان العسكري جماعة الإخوان المسلمين "بالتنظيم الإرهابي الدولي" ويشيد بالأجهزة الأمنية التي قامت بضربة "استباقية قاسمة" للخلية الإرهابية. وعلى الرغم من أن البيان يتضمن ذكر مفردة "إرهاب" أكثر من عشرين مرة فإن الأفعال التي اعترف بها المعتقلون التسعة هي أفعال "تخريبية"، في مضمونها، كحرق أبراج الاتصالات وعربات الشرطة... أي أنّها لا تندرج في خانة ما يُسمّى "الإرهاب".

ومع وجود هذه الظاهرة في كل من إيران وسورية ومصر اليوم، فإن الأغراض وراءها تتنوع. نظام الأسد في بداية الثورة بدأ حملةً عشوائية من الاعتقالات والتحقيقات التلفزيونية، ظهرت في البداية كاريكاتورية مع أبو نظير وغيره. لاحقاً اعتمد النظام السوري تقنية الخلية الإرهابية
الأكثر إقناعاً لجمهوره، وفي كل مرة يقوم الإعلامي الأسدي باستكمال عمل زميله محقق القبو.
في سورية، كان على الأسد أن يواجه حرباً إعلاميّة شعواء وكان عليه أن يثبت لرعيته والغرب أنه يواجه إرهاباً منظماً. أما السيسي فهو ديكتاتور ما بعد الربيع العربي، يحلم أن يصبح مستبداً أبدياً لمصر في زمن يستعصي فيه الاستبداد بسبب انكشاف السياسة العربية على الميديا بشكل واسع وارتفاع حساسية الشعوب تجاه القمع. لكن المستبد الجديد يُريد أن يلعب لعبة الإرهاب التي يتقنها زميله السوري. مكافحة الإرهاب والضخ الإعلامي المتواصل ضد "الإخوان المسلمين" هما عملة الديكتاتور لشراء الوقت من الغرب، لكنها عملة قديمة، فإذ يشتري فيها بشار الأسد وقتاً لكرسيه المتآكل، يتوهم السيسي أنه يشتري وقتاً لتأسيس إمبراطوريته الخاصّة.
وإذا كان الغرب ما زال يُفضّل مكافحة الإرهاب على الدفع باتجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنّ السيسي يبدو مؤقتاً بحد ذاته. فربط شرعيته بالإرهاب يعني انتهاء صلاحيتها مع حلّ ملف "داعش" مستقبلاً.

هكذا يفشل السيسي أن يكون بشار الأسد، على الرغم من محاولة الاستنساخ الدائمة للاستبداد. فقاتل الأطفال يحمل قضيّة واضحة تمثله وتمثل مؤيديه، كذلك يواجه "عدواً واحداً" يريد إسقاطه، بينما السيسي مهووس السلطة الجديد في مصر يسعى إلى أن يكون الديكتاتور الذي لا تجوز عليه الثورة، ويرغب في أن يؤسس دولة أمنية على أنغام سبعينيات القرن الماضي... لكنه "لطيف" يتحدث بصوت خفيض ومهموم بقضايا المصريين المعقدة، يشق قناة قزمة ليصبح بطلاً وأباً للمصريين، ويترك دفة التشبيح لرؤوس الميديا التي تُشرع القمع ومخابرات جيشه التي تعتقل الناس عشوائياً. يريد السيسي أن يكون الديكتاتور الذي لا يعلم، كبشار الأسد الذي فاته أن قواته تستخدم البراميل المتفجرة. لكن المفارقة هنا أن الاثنين يسلكان ذات السلوك الإعلامي والأمني، أحدهما في طور السقوط والآخر يتوهم أنه بدأ للتو.


اقرأ أيضاً: مقابلة جيزيل خوري مع ريبال الأسد...تلميع لصورة قاتل زوجها؟


*****

إنفتاح إعلامي 

ليس وجه الشبه بين نظامي الرئيسين المصري عبدالفتاح السيسي والسوري بشار الأسد مُجرّد خُطط إعلاميّة متفرّقة. فالنظامان يتواصلان منذ فترة ويُحاولان التنسيق. في شهر تموز/يوليو من عام 2014 الماضي، نشرت "العربي الجديد" معلومات حصريّة عن زيارة وفد رفيع المستوى من المخابرات المصريّة، لدمشق، عبر بيروت ووساطة لبنانيّة. وقالت المعلومات حينها إنّ "الوفد المصري حمل رسائل إيجابية من السيسي إلى الأسد، تحت عنوان أنّ همّاً مشتركاً يجمع بين الرجلين هو: "محاربة الإرهاب". ففي التعريف المصري الجديد لـ"الإرهاب"، والتعريف السوري أيضاً، تنظيم الإخوان المسلمين هو رأس الحربة".

عاد هذا الموضوع إلى الواجهة منذ أسبوع تحديداً، أي بعد أكثر من عام على ما نشرته "العربي الجديد"، إذ زار وفد إعلامي من مؤسسات حكوميّة مصريّة، سورية. نقل النظامان بذلك علاقتهما إلى العلن. وكان بين المؤسسات المصرية، "الأهرام"، و"الأخبار"، و"الجمهورية"، وقناة "النهار".

والأخيرة، ظهر عليها وزير الخارجيّة وليد المعلم في "حديث حصري"، لأول مرة بعد خمس سنوات من عمر الثورة السورية، ليُهاجم جماعة الإخوان المسلمين، قائلاً: "الإخوان المسلمين سبب البلاء في المنطقة".

يُذكر أنّ سورية ومصر تحتلان المراتب الأخيرة على مستوى حرية الصحافة بحسب مرصد منظمة "مراسلون بلا حدود".


اقرأ أيضاً: يوسف شعبان... صحافي وثوري ومعتقل
المساهمون