19 أكتوبر 2019
استراتيجية الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرّفة
بعد حوالي 44 سنة، من النشاط السياسي، تخللته إخفاقات وصراعات داخلية كثيرة، ومحاولات لم شمل أطياف متنوعة ومختلفة، بل ومتعارضة.. وقليل من الانتصارات الانتخابية، تستعد الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرّفة لخوض الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في أبريل/ نيسان 2017 معوّلة على تحقيق نتيجة تاريخية، أي الفوز بها. فبعد أن تمكّن جان- ماري لوبان، زعيمها آنذاك، في اجتياز الدور الأول لرئاسيات 2002، تسعى ابنته، التي ورَّثها رئاسة الحزب، إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك، خصوصاً أن كل استطلاعات الرأي تشير، منذ عدة أشهر، إلى اجتيازها الدور الأول، بيد أن حظوظها في الفوز بالرئاسيات تبقى محدودةً في الراهن، لكن هذا المشهد غير مستبعد في السنوات المقبلة إن بقي المد المتطرّف على منحاه الحالي.
بالطبع، ليس المد اليميني المتطرّف الحالي في فرنسا وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات ضخمة طويلة الأمد، بعضها يخصّ الجبهة الوطنية نفسها، وبعضها يخصّ الأحزاب الحاكمة (اليمنية الجمهورية واليسارية) وبعضها الآخر يتعلق بالأوضاع الاجتماعية والتحولات في فرنسا عموماً. تكتفي هذه المقالة بالفئة الأولى مع التركيز على الإستراتيجية التي تبنتها الجبهة الوطنية، منذ تولي مارين لوبان رئاسة الحزب. وتقوم هذه الإستراتيجية على تحقيق جملةٍ من الأهداف المتكاملة، من خلال تلطيف بعض الخيارات الأيديولوجية، لأغراضٍ تكتيكية، لتغيير صورة الحزب لدى الرأي العام، وإقناع مزيدٍ من الناخبين الذين ليسوا بالضرورة متطرّفين بالتصويت لها. ويمكن تلخيص هذه الأهداف في الآتي.
أولاً، إضفاء المصداقية على الحزب، لأن الجبهة تعاني من مشكلة مصداقية، بسبب تطرّفها وتموقعها دائماً على الهامش، وطروحاتها السهلة والتبسيطية. ولربح معركة المصداقية، تعمل الجبهة الوطنية على كبح جماع الخطاب العنصري لأعضائها ومنخرطيها، وتبني سياسية إعلامية محكمة، تحت مراقبة المقربين من مارين لوبان وتنفيذهم. وذلك محاولةً لطي صفحة التصريحات العنصرية الرنانة لأبيها جان-ماري لوبان التي كانت دائماً تعيد الجبهة سنوات إلى الوراء. وتمرّ هذه المصداقية المنشودة عبر خطاب "مسؤول"، بالحد من نبرته العنصرية علناً، لأغراضٍ تكتيكية بالأساس، لأن الأمر لا يتعلق بقناعاتٍ راسخة، وبالتأكيد على أن الحزب يطرح أفكاراً ومقترحاتٍ عملية جادة.
ثانياً، العمل على إضفاء المصداقية على الحزب يعني إنهاء حالة الشيطنة التي يعرفها لدى
قطاعاتٍ واسعة من الفرنسيين. فهم ينظرون إليه خطراً على الجمهورية الفرنسية، بسبب مواقفه العنصرية والمعادية للسامية وللمهاجرين، مع العلم أن فرنسيين كثيرين من أصول أجنبية.
ثالثاً، من خلال الهدفين الأول والثاني، تسعى الجبهة الوطنية إلى تحقيق هدف ثالث أسمى، هو تطبيع الحزب في المشهد السياسي الفرنسي، بجعله مثل بقية الأحزاب، له المصداقية الضرورية والقدرة على الحكم. وتعد عميلة التطبيع هذه معركةً سياسيةً وإعلاميةً كبيرة، تقودها الجبهة الوطنية في السنوات الأخيرة. حيث نلاحظ حضوراً إعلامياً مكثفاً، غير مسبوق، لمسؤوليها. ويمكن القول إنهم نجحوا في تطبيع الجبهة الوطنية باعتبارها علامة سياسية، وهم قيد تحقيق تطبيع وضعها حزباً سياسياً "عادياً" في الساحة السياسية الفرنسية.
رابعاً، العمل على تحويل الجبهة الوطنية من حزب احتجاج ومعارضة إلى حزب حكومة، حزب حكم. حيث تبين أن الجبهة لم تكن مستعدة للحكم، فالإرباك الذي أصابها، عقب اجتياز رئيسها الدور الأول في رئاسيات 2002، جعل قيادتها تفكّر في استراتيجيةٍ للخروج من دائرة المعارضة والتموقع حزباً قوياً ومسؤولاً في المشهد السياسي في البلاد، له مقترحاته وبرامجه، ولا يكتفي فقط بالتركيز على نقد مقترحات الأحزاب الحاكمة وبرامجها وأدائها.
خامساً، العمل على تحويل التصويت، لصالحها، من تصويت احتجاج إلى تصويت قناعة. والعملية هنا سياسية بامتياز، وهي في قلب إستراتيجية الجبهة الوطنية، لأنها مرتبطة بأهدافها سالفة الذكر. إذ لا يمكن لها أن تنتزع المصداقية المرجوة، وأن تضع حداً للشيطنة التي تعانيها، بسبب توجهاتها، وأن تصبح حزب حكمٍ، لا حزب معارضة فقط، إن بقي التصويت لصالحها تعبيراً على احتجاج (وسخط) الناخبين من الحزب اليميني الجمهوري أو الحزب الاشتراكي الذين يتداولان على السلطة منذ عقود. والعملية هنا مترابطة ومعقدة، لأن تحقيق الأهداف السابقة الذكر يسمح للجبهة بالانتقال من تصويب احتجاجٍ إلى تصويت قناعة، وفي الوقت نفسه، فإن هذا الانتقال يعني أيضاً تحقيقها مبتغاها. بمعنى أن هناك تداخلاً بين السبب والنتيجة. ومن ثم، فمعركة التحول هذه في طبيعة التصويب هي من سيحدّد مصير الجبهة الوطنية مستقبلاً.
لكن، كيف يمكن تحقيق ذلك؟ هل يجب أن يصبح الناخبون متطرّفين في غالبيتهم، حتى يتسنى ذلك الانتقال؟ أم يتعيّن اعتماد مراجعة تكتيكية للإيحاء بإخراج الجبهة الوطنية من دائرة التطرّف، قصد إقناع قطاعات إضافية من الناحبين بشكلٍ يجعلها تتمتع بالأغلبية؟ للخروج من هذا المعضلة، تبنت الجبهة الوطنية إستراتيجية متكاملة هي الأخرى، تقوم على "مراجعة" تكتيكية لأيديولوجيتها، بإعطاء الانطباع مثلاً بـ "تصفية" إرث الأب لوبان الأيديولوجي غير المرغوب فيه، ليس كرهاً في هذه الأيديولوجية التي تبقى قوام الحزب، وإنما محاولة لاستمالة الناخبين الفرنسيين غير المتطرّفين، بشكل يسمح بإعادة التموقع الإيديولوجي للحزب. ويقرّ أحد قادتها أن إستراتيجية التطبيع التي ينفذها الحزب كانت دائماً تصطدم بمسألة معاداة السامية، وبالتالي، قرّر الجبهة الوطنية التخلص منها وإقصائها من خطابها، فكان أن أزالت العقبة السياسية الكبرى بينها وبين قطاعاتٍ واسعة من الناخبين الفرنسيين.
وتعد هذه "المراجعة" الأيديولوجية التكتيكية، لأن معاداة السامية تبقى راسخةً في أيديولوجية
الجبهة الوطنية، عاملاً حاسماً في تطبيع الحزب في الساحة الفرنسية. لكن السياسة لا تحتمل الفراغ، وبالتالي، كان من الضروري تعويض "الفزّاعة" السامية (معاداة السامية) بفزّاعة أخرى، تعبوية هي الأخرى، وهي "الفزّاعة" الإسلامية. هكذا حلّ العداء للإسلام وللمسلمين محل العداء لليهود في خطاب الجبهة الوطنية. هذا لا يعني أن المسلمين لم يكونوا في قائمة أعداء الجبهة، فهم كانوا دائماً في المراتب الأولى، وإنما كانوا يدرجون ضمن فئة الأجانب والمهاجرين والعرب... ونظراً للتحولات المجتمعية عموماً، اختفت مفردة العرب، لصالح مفردة مسلم. للإشارة إلى أن "الفزّاعة" الإسلامية التي توظفها الجبهة الوطنية بامتياز، تأتي في وقتٍ تلقى فيه هذه الفزاعة تقبلاً واضحاً في المجتمع الفرنسي، لأسباب مختلفة، يتعلق بعضها بتدني سقف التسامح داخل هذا المجتمع والعنصرية المتنامية فيه، وبعضها بالسلوكيات الاستفزازية لأقليةٍ من المسلمين، وبعضها الآخر بالعمليات الإرهابية التي نفذتها تنظيمات جهادية على التراب الفرنسي. وتستفيد الجبهة الوطنية من مفعول الهجمات الإرهابية أكثر من غيرها، وتستخدمها حجة دامغة في توظيفها الفزّاعة الإسلامية.
إلا أن هذه الاستراتيجية المتكاملة للجبهة الوطنية لا تضمن لها، بالضرورة، النصر الموعود. فهي نجحت في فرض بعض القضايا المتطرّفة على الأجندة السياسية الفرنسية، ما أعطاها ثقلاً سياسياً، لكن هذا "النجاح" قد يسبب خسارتها أيضاً، لأنه ينشئ تعدّدية في العرض السياسي المتطرّف في السوق الانتخابية في البلاد، ويدفع الناخب نحو البقاء في دائرة الأحزاب التقليدية. كما أن عمل الجبهة على "تهذيب" أيديولوجيتها لربح مزيدٍ من الناخبين قد يجعلها تخسر جزءاً من ناخبيها "التاريخيين"، إذ من الواضح أن هناك هوة بين خطاب الجبهة الحالي وتموقع ناخبيها حيال بعض القضايا التعبوية، هوة لا يمكن لتوظيف وتضخيم الفزاعة الإسلامية وحدها ردمها.
بالطبع، ليس المد اليميني المتطرّف الحالي في فرنسا وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات ضخمة طويلة الأمد، بعضها يخصّ الجبهة الوطنية نفسها، وبعضها يخصّ الأحزاب الحاكمة (اليمنية الجمهورية واليسارية) وبعضها الآخر يتعلق بالأوضاع الاجتماعية والتحولات في فرنسا عموماً. تكتفي هذه المقالة بالفئة الأولى مع التركيز على الإستراتيجية التي تبنتها الجبهة الوطنية، منذ تولي مارين لوبان رئاسة الحزب. وتقوم هذه الإستراتيجية على تحقيق جملةٍ من الأهداف المتكاملة، من خلال تلطيف بعض الخيارات الأيديولوجية، لأغراضٍ تكتيكية، لتغيير صورة الحزب لدى الرأي العام، وإقناع مزيدٍ من الناخبين الذين ليسوا بالضرورة متطرّفين بالتصويت لها. ويمكن تلخيص هذه الأهداف في الآتي.
أولاً، إضفاء المصداقية على الحزب، لأن الجبهة تعاني من مشكلة مصداقية، بسبب تطرّفها وتموقعها دائماً على الهامش، وطروحاتها السهلة والتبسيطية. ولربح معركة المصداقية، تعمل الجبهة الوطنية على كبح جماع الخطاب العنصري لأعضائها ومنخرطيها، وتبني سياسية إعلامية محكمة، تحت مراقبة المقربين من مارين لوبان وتنفيذهم. وذلك محاولةً لطي صفحة التصريحات العنصرية الرنانة لأبيها جان-ماري لوبان التي كانت دائماً تعيد الجبهة سنوات إلى الوراء. وتمرّ هذه المصداقية المنشودة عبر خطاب "مسؤول"، بالحد من نبرته العنصرية علناً، لأغراضٍ تكتيكية بالأساس، لأن الأمر لا يتعلق بقناعاتٍ راسخة، وبالتأكيد على أن الحزب يطرح أفكاراً ومقترحاتٍ عملية جادة.
ثانياً، العمل على إضفاء المصداقية على الحزب يعني إنهاء حالة الشيطنة التي يعرفها لدى
ثالثاً، من خلال الهدفين الأول والثاني، تسعى الجبهة الوطنية إلى تحقيق هدف ثالث أسمى، هو تطبيع الحزب في المشهد السياسي الفرنسي، بجعله مثل بقية الأحزاب، له المصداقية الضرورية والقدرة على الحكم. وتعد عميلة التطبيع هذه معركةً سياسيةً وإعلاميةً كبيرة، تقودها الجبهة الوطنية في السنوات الأخيرة. حيث نلاحظ حضوراً إعلامياً مكثفاً، غير مسبوق، لمسؤوليها. ويمكن القول إنهم نجحوا في تطبيع الجبهة الوطنية باعتبارها علامة سياسية، وهم قيد تحقيق تطبيع وضعها حزباً سياسياً "عادياً" في الساحة السياسية الفرنسية.
رابعاً، العمل على تحويل الجبهة الوطنية من حزب احتجاج ومعارضة إلى حزب حكومة، حزب حكم. حيث تبين أن الجبهة لم تكن مستعدة للحكم، فالإرباك الذي أصابها، عقب اجتياز رئيسها الدور الأول في رئاسيات 2002، جعل قيادتها تفكّر في استراتيجيةٍ للخروج من دائرة المعارضة والتموقع حزباً قوياً ومسؤولاً في المشهد السياسي في البلاد، له مقترحاته وبرامجه، ولا يكتفي فقط بالتركيز على نقد مقترحات الأحزاب الحاكمة وبرامجها وأدائها.
خامساً، العمل على تحويل التصويت، لصالحها، من تصويت احتجاج إلى تصويت قناعة. والعملية هنا سياسية بامتياز، وهي في قلب إستراتيجية الجبهة الوطنية، لأنها مرتبطة بأهدافها سالفة الذكر. إذ لا يمكن لها أن تنتزع المصداقية المرجوة، وأن تضع حداً للشيطنة التي تعانيها، بسبب توجهاتها، وأن تصبح حزب حكمٍ، لا حزب معارضة فقط، إن بقي التصويت لصالحها تعبيراً على احتجاج (وسخط) الناخبين من الحزب اليميني الجمهوري أو الحزب الاشتراكي الذين يتداولان على السلطة منذ عقود. والعملية هنا مترابطة ومعقدة، لأن تحقيق الأهداف السابقة الذكر يسمح للجبهة بالانتقال من تصويب احتجاجٍ إلى تصويت قناعة، وفي الوقت نفسه، فإن هذا الانتقال يعني أيضاً تحقيقها مبتغاها. بمعنى أن هناك تداخلاً بين السبب والنتيجة. ومن ثم، فمعركة التحول هذه في طبيعة التصويب هي من سيحدّد مصير الجبهة الوطنية مستقبلاً.
لكن، كيف يمكن تحقيق ذلك؟ هل يجب أن يصبح الناخبون متطرّفين في غالبيتهم، حتى يتسنى ذلك الانتقال؟ أم يتعيّن اعتماد مراجعة تكتيكية للإيحاء بإخراج الجبهة الوطنية من دائرة التطرّف، قصد إقناع قطاعات إضافية من الناحبين بشكلٍ يجعلها تتمتع بالأغلبية؟ للخروج من هذا المعضلة، تبنت الجبهة الوطنية إستراتيجية متكاملة هي الأخرى، تقوم على "مراجعة" تكتيكية لأيديولوجيتها، بإعطاء الانطباع مثلاً بـ "تصفية" إرث الأب لوبان الأيديولوجي غير المرغوب فيه، ليس كرهاً في هذه الأيديولوجية التي تبقى قوام الحزب، وإنما محاولة لاستمالة الناخبين الفرنسيين غير المتطرّفين، بشكل يسمح بإعادة التموقع الإيديولوجي للحزب. ويقرّ أحد قادتها أن إستراتيجية التطبيع التي ينفذها الحزب كانت دائماً تصطدم بمسألة معاداة السامية، وبالتالي، قرّر الجبهة الوطنية التخلص منها وإقصائها من خطابها، فكان أن أزالت العقبة السياسية الكبرى بينها وبين قطاعاتٍ واسعة من الناخبين الفرنسيين.
وتعد هذه "المراجعة" الأيديولوجية التكتيكية، لأن معاداة السامية تبقى راسخةً في أيديولوجية
إلا أن هذه الاستراتيجية المتكاملة للجبهة الوطنية لا تضمن لها، بالضرورة، النصر الموعود. فهي نجحت في فرض بعض القضايا المتطرّفة على الأجندة السياسية الفرنسية، ما أعطاها ثقلاً سياسياً، لكن هذا "النجاح" قد يسبب خسارتها أيضاً، لأنه ينشئ تعدّدية في العرض السياسي المتطرّف في السوق الانتخابية في البلاد، ويدفع الناخب نحو البقاء في دائرة الأحزاب التقليدية. كما أن عمل الجبهة على "تهذيب" أيديولوجيتها لربح مزيدٍ من الناخبين قد يجعلها تخسر جزءاً من ناخبيها "التاريخيين"، إذ من الواضح أن هناك هوة بين خطاب الجبهة الحالي وتموقع ناخبيها حيال بعض القضايا التعبوية، هوة لا يمكن لتوظيف وتضخيم الفزاعة الإسلامية وحدها ردمها.