اتركوهم وسكاكينهم

15 أكتوبر 2015
+ الخط -

"أنا الغريق فما خوفي من البلل؟"، لكن الفلسطيني الغارق في وحل احتلال أرضه العربية ما زال يعاني من لوم أشقائه العرب، أحياناً، لأنه يندفع في وجه السيل الصهيوني العارم، بحجة خوفهم عليه من البلل. جزاهم الله خيراً، وشكر سعيهم المستمر على هذا الصعيد عقوداً.

في نقاش حول الانتفاضة الحالية في فلسطين ونتائجها، قالت زميلة إنها متعاطفة مع الفلسطينيين بالتأكيد، وترى أن من حقهم النضال في سبيل تحرير أراضيهم، لكنهم استعجلوا هذه المرة. ثم إن استخدامهم "الهمجي" السكاكين في طعن المدنيين المباشر سيظهرهم بمظهر المعتدين. ولذلك، كان عليهم أن يتمسكوا بالخيار السلمي وحده، وفي النهاية، ندعو الله أن ينصرهم على أعدائهم.

زميلتي "الرقيقة" عندها حق. كان عليهم أن ينتظروا سبعين سنة أخرى قبل أن يفكروا في مقاومة المحتل. وحبذا لو اكتفوا بالتظاهرات السلمية والشعارات المدنية والقصائد والأغاني الوطنية... وبالكوفية، ذلك أدنى لهم أن يعرفوا على طريق التحضر والنضال السلمي.

من أغبى الأسئلة الاستنكارية التي يمكن أن تطرح، وقد طرح، في سياق الانتفاضة سؤال: لماذا الآن؟ ويضيف حسنو النية: لماذا تندلع هذه الانتفاضة المستحقة في هذا الوقت الذي ينشغل فيه العرب أجمع بسورية وحربها المتعددة الجبهات ولاجئيها المتوزعين على شواطئ العالم وثورتها القتيلة بلا دفن، وبالعراق وداعش وما بينهما من تقاطعات ومقاطعات وحروب داخلية وخارجية، وباليمن والحوثيين والتحالف العربي بينهما، وبلبنان الغارق في قمامته السياسية، وبمصر وبليبيا و... و...إلخ ؟  

مر على الاحتلال الصهيوني فلسطين نحو سبعين سنة لم ينته فيها صبر أهل الأرض، ولم تنته فيها عنجهية المحتل وغطرسته. ولا نتيجة لهذا كله سوى المزيد من التوسع والاستيطان والاحتلال والتعسف والقتل والأسر والتشريد والجدران العازلة والسياسة الخانقة والإهانات المستمرة للبشر وللحجر وللمقدسات ولكل شيء يرفض الاحتلال. ومنذ أن اقتنع الفلسطينيون أنهم وحدهم القادرون على تغيير معادلات الأرض والسياسة بالنضال المباشر والمقاومة المستمرة، عبر كل الوسائل المتاحة لهم على بساطتها، انطلاقاً بالحجر، وعودة إليه، وهم لا ينتظرون من العرب شيئاً، سوى أن يتركوهم وشأنهم. ومع هذا، لا يتركهم العرب وشأنهم، فما أن تندلع انتفاضة حتى يجد الفلسطيني نفسه محاصراً بأسئلة أشقاء وأصدقاء كثيرين وعتاباتهم وحساباتهم، قبل أن يحاصر بأسلحة الأعداء وغازاتهم المسيلة للدموع ورصاصهم المسيل للدماء.

حدث هذا في انتفاضة الحجر الأولى التي اندلعت في العام 1987، ومعها تعرّف العالم على كلمةٍ عربيةٍ دخلت إلى قواميس اللغات الأخرى، بلفظها العربي نفسه ومعناه؛ "انتفاضة"، حيث بقيت مشتعلة ولم تخمد قليلاً إلا بعد أن تكالب عليها الأعداء، بمعاونة الأعدقاء، فطعنوها بالقلم نفسه الذي وقعوا فيه اتفاقية أوسلو. وحدث هذا مرة أخرى في انتفاضة الأقصى التي أجّجت ما تحت الرماد من جمر خبيء في العام 2000، وكان من نتائجها انسحاب صهيوني مشهود من غزة، قبل أن يعود الفريق المكون من الأعداء والأعدقاء للالتئام اللئيم لكتابة شهادة وفاتها، في شرم الشيخ هذه المرة، وبقلم وقعوا فيها اتفاقية الهدنة بين السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال. فهل سيحدث هذا مرة ثالثة بعد قليل، أم سيدرك الأشقاء، الأعدقاء قبل غيرهم، أن للفلسطينيين وحدهم حق اختيار موعد حربهم مع العدو، وشكل مقاومتهم له، ونوع السلاح المستخدم في ذلك، ومدة هذه الحرب، وكل شيء يتعلق بها؟ فليس للنضال من أجل الحق موعد محدد، بل كل المواعيد مفتوحة أمام المناضلين. وحقهم وحقنا جميعاً في الأقصى لا يخضع لحسابات الزمان والمكان؟

سننتظر وسنرى. أما أصحاب المشاعر المرهفة الذين يؤذيهم منظر الدم والسكاكين المنغرسة في رقاب الصهاينة المحتلين فعليهم أن يغمضوا أعينهم، أو أن يستخدموا "الريموت كونترول" لتغيير القناة. وليتركوا الفلسطينيين وسكاكينهم ماضين في سبيل النضال، ذلك أدنى أن يتحرروا ويحرّروا الأقصى.. وفلسطين كلها.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.