اتبع شغفك: النصيحة الخادعة

31 مارس 2016
السعادة في الرحلة ذاتها (Getty)
+ الخط -
"Follow your Passion"* أو اتبع شغفك، تكاد تكون من أكثر النصائح التي تسمعها كأحد أهم أسرار النجاح والسعادة. أن تجد ما يلهمك ويحفزك وتحب فعله، ويصبح هو مصدر رزقك وعملك، إذاً فقد ملكت الدنيا بحذافيرها. كنت أكره هذه النصيحة وتسبب لي قلقا واكتئابا، قد يكون السبب أني لم أجد شغفي حتى الآن، ولهذا فإن هذه النصيحة قد تذكرني بتقصيري أو حتى فشلي، ومن الممكن أن يكون هناك سبب آخر، أنها نصيحة غير واقعية، وتقع تحت قائمة حكم التنمية البشرية والتنمية الإدارية الرخيصة السهلة. اتبع شغفك وابدأ والنهاية في ذهنك والتخطيط أهم شيء وإذا لم تخطط فلقد خططت للفشل والرؤية والرسالة والتخطيط الإستراتيجي.


النصائح السهلة التي يمكن أن يقولها أي شخص غالبا لم يغبر يده في عمل تنفيذي واقعي واكتفى بتقديم الاستشارات والتدريبات التي يكون الناتج الوحيد لها أن المتدرب يخرج ناقما على المؤسسة التي ينتمي لها ويقتنع أنه في واقع سيئ وأن هناك فرصه وظيفية أو مجالا سحريا، يجب أن يبحث عنه وعندما يجده، سيخرج المارد من داخله وينطلق في الآفاق ويحقق كل النجاحات ويعيش في السعادة الأبدية.

الشغف يتلاشي عندما يصبح عملك
عندما يتحول شغفك إلى مجال عملك، غالبا ستفقد هذا الشغف والمتعة، كتجربة شخصية أعشق السياسة والعمل العام وأتيحت لي فرصة أن تكون هي عملي ومصدر دخلي ونشاطي الوحيد لفترة من حياتي، لكن هذا لم يحقق لي السعادة والتحقق الذاتي والمتعة المتوقعة، عندما يتحول شغفك إلى التزام وعدد ساعات عمل ومسؤوليات ومهام وأدوار قد لا تريد فعلها كلها، تفقد الروح ويصبح الموضوع ثقيلا على النفس مثله مثل أي وظيفة.

الكتابة هي معشوقة لكثير من المبدعين، لكن كثيرا من الكتاب يحكي أن الكتابة تحولت إلى عبء ثقيل ومتعتها تتضاءل عندما تتحول إلى التزام وعقد، يجب عليه الانتهاء من المقال في اليوم الفلاني أو تسليم الرواية في نهايه هذا الشهر، ويجب أن يكتب حتى لو لم تكن هناك فكرة حاضرة في ذهنه، وكثير منهم يتمنى أن يعود إلى نقطة الكتابة الحرة، يكتب ما يشاء وقتما يشاء.

وستجد كثير من الأمثلة، من يحب العمل التطوعي والأهلي وشغفه الحقيقي ثم يصبح هو عمله وحياته، ستجد في الأغلب الروح مفقودة، تتحول اللحظات ذات المعنى الحقيقي في العمل الخيري إلى مشاكل إدارية وصراعات ونفسيات واتهامات وتجده يحن إلى أيام البدايات النقية الجميلة.

ماذا أفعل إذا كان لي أكثر من "شغف"
من الأسباب التي تجعل نصيحة "اتبع شغفك" نصيحة غير واقعية، إن كثيرا من البشر لواحدهم أكثر من اهتمام، وأكثر من هواية ويحب كذا مجال، فأي شغف يجب أن يتبعه ويسلك مساره؟

الثورة الصناعية والحياة الوظيفية افترضت أن كل شخص يجب أن يتخصص تخصصا دقيقا ويكون هو مساره الذي يحدث فيه تراكم من وقت تخرجه وحتى معاشه، والنصيحة التي اكرهها تقول لك اوجد شغفك ليكون هو كل حياتك.

اذا كنت احب وأستمتع وأجد متعه في السياسة والعمل العام وادارة المشروعات والمجال الصناعي والسياسات العامه وادارة الأعمال ..الخ، ايهما اتبع ولماذا هذا المجال او ذاك، واذا اخترت واحدا في جزء من حياتي هل يجب ان اكمل فيه حتي نهاية الأنفاس ام ممكن اغيره وبهذا اكون تخيلت عن شغفي.

نصيحة "اتبع شغفك" تفترض وجود شغف وحيد وهذا نادر في الطبيعة البشرية. البشر لهم عدة رغبات، الإنسان ليس ذا بعد واحد كما تفترض نصائح التنمية البشرية والإدارية، الإنسان كائن مركب.

النفس تسأم
النفس البشرية طبيعتها أعقد مما تظهر مثل هذه النصائح، عندما يتمنى الشخص شيئا ويريده بقوة، عندما يتحقق يحصل عليه يجد متعة لحظية ومؤقتة وبعدها النفس تشتهي شيئا جديد وشيئا آخر ويصبح ما حصل عليه شيئا عاديا لا يحقق له هذه المتعة.

مثلا قد يصبح حلم الشخص ان يصبح مذيعا لامعا ومشهورا او فنانا، ويشعر بقمة النجاح عندما يصل إلى حلمه ويطل على الشاشة امام الناس ويصبح مشهورا ويشير الناس له بالبنان ويوقفه الناس في الشارع ليتحدثوا معه ويلتقطوا معه بعض الصور، لكن مع مرور الوقت يصبح الأمر روتينيا وقد يكره الشهرة ويتمنى ان يعود شخصا عاديا لا يدفع ثمن الشهرة التي حققها ويبدأ في تمني حياة اخرى غير التى يعيشها.

كلنا نحب السفر ونعشقه ونتمنى ان نقضي وقتا اطول او كل حياتنا في الترحال والتنقل وزيارة البلدان ورؤية حياة وثقافات جديدة، لكن اذا سألت أو استمعت لمن عمله يتطلب منه كثرة السفر او الترحال او حتى من تقاعد مبكرا ويمتلك الثروة وسافر كثيرا، ستجدهم مع الوقت ملوا من السفر وكرهوا اجواء المطارات والفنادق ويميلون للاستقرار والهدوء.

المتعة أو الشغف هو منحنى يكون في قمته في بدايته وبعدها يبدأ في منحدر نازل.
اول مقالة واول ظهور على الشاشة واول يوم في العمل واول سنة في عملك الخاص ..الخ وبعدها يبدأ الروتين والملل والرغبه في البحث عن شغف آخر وعمل آخر ومجال مختلف.

الأمثلة الخادعة
مروجو نصائح التنمية البشرية بضاعتهم الأساسية هي مجموعة من القصص للناجحين في مجالهم، واظهار ان الشخص حقق كل هذا النجاح لأنه اتبع هذه النصيحة الذهبية مثل "اتبع شغفك".

من الأمثلة المشهورة ستيف غوبز مؤسس شركة أبل، الشركة التي يشار لها بالبنان وغيرت العالم بمنتجاتها وقيمتها السوقية اعلى من ميزانية دول، ستيف غوبز نفسه في محاضرته المشهورة التي القاها امام طلبه الدراسات العليا في جامعة MIT تحدث عن اتباع الشغف، لكن لو نظرنا إلى بدايات ستيف غوبز هل سنجد انه اتبع شغفه ليصل إلى ما وصل إليه؟

ستيف غوبز بدأ حياته الدراسية الجامعية ولم يظهر اهتمام بالتكنولوجيا او ريادة الأعمال بل كان يدرس الفنون والتاريخ ومهتما بالرقص، وكان يعيش حياة فوضوية، واوقف دراسته الجامعيه ولم يكمل والتحق بوظيفة ثم انقطع عنها وذهب إلى رحلة طويلة للهند وبعد عودته طلب منه صديقه المتخصص في الإلكترونيات والحاسب الآلي مساعدة واشترك معه، وبعدها تركه وذهب في اجازة ورحلة طويلة ايضا وبعدها عاد ووجد انه تم استبداله، اظن انه من احتك بستيف في هذه الفترة من حياته قبل بداية شركة ابل، لن يجده هذا الشخص المصمم ذا الرغبه القوية في المجال الذى سيكمل فيه حياته.

وحتى عندما بدأ مع صديقه ثانية كان الدافع رغبة في تحقيق مكسب مالى سريع يدر بضع مئات الدولارات، وفقط ثم الصدفة والظروف جعلت الأمر يكبر معهم، لم يكن ستيف غوبز يحلم في البدايات انه يريد عمل منتجات تغير العالم او يكون على رأس شركة تدر المليارات.

واذا بحثت في نشأة كثير من الشركات العالمية الرائدة التى يزيد عمرها على عشرات السنين، قد تجد الشركة المشهورة جدا في مجال السيارات لم يبدأ مالكها او منشئها في هذا المجال من الأساس ولكن الظروف والمتغيرات والفرص المتاحة انتقلت به كالمركب في الموج الهادر من شاطئ إلى شاطئ ومن جزيرة إلى اخرى حتى رست على مكان مستقر وانطلقت.

الشغف نادر
قام عالم نفس كندي باجراء دراسة في 2002 على حوالى 600 طالب كندي جامعي وسألهم عن شغفهم وما هو؟
84% من الطلبة اجابوا ان عندهم شغفا ما وهي نسبة مرتفة وتدعم النصيحة، ولكن المفأجاة كانت في ما هو هذا الشغف..
اعلى 5 نتائج بم هو شغف هؤلاء كان (الرقص، الهوكي، التزحلق على الجليد، القراء، السباحة).

السؤال كان عن الشغف Passion وليس الهوايات Hobbies وانت تسأل طلبة جامعات في دولة مرموقة.
4% فقط من الطلبة اختاروا شغفا له علاقه بمجال دراستهم وعملهم المستقبلي.

لا تشعر بالأسى على حالك اذا لم تعرف ما هو شغفك، صدقنى من الممكن ان تكون سويا وسليما وطبيعيا وليس لك شغف ما مثل ما يحكي مروجي النصائح السهلة، او يكون لك شغف بعيد عن مجال عملك وحياتك وتعيش سعيدا.

نتيجة هذه النصيحة
من الآثار السلبية لنصيحة "اتبع شغفك" انها تؤدي إلى ظاهرة عدم الرضا عند الناس عن حياتهم، تجده مل من وظيفته ومن حياته ويلعن كل يوم يمر عليه، فأكيد شغفه ليس في مجال عمله وطبيعة حياته الحالية، وتجده يعيش في حالة السعادة المؤجلة، فيوم ما سيجد فرصة العمر عندما يبدأ عمله الخاص او يغير مجاله او يجد وظيفة في الشركة الحلم التى ستكتشفه وتطلق قدراته، وحتى تأتي لحظه الاشتعال فهو سيعيش حياة الإنكار ورفض الواقع فتجده مكتئبا محبطا بائسا.

اذا نظرنا في الأرقام في بلد الإحصائيات أميركا، سنجد ان معدل الرضا الوظيفى في انحدار مستمر، في السبعينات والثمانينات كان معدل الرضا الوظيفى اعلى من الأن بكثير، في 1987 كان معدل الرضا الوظيفي 61% وفي 2010 أصبح 45%.

اذا تتبعت تكرار جملة "اتبع شغفك" ستجد تضاعف استخدمها في عام 2000 ثلاثة اضعاف استخدمها في الثمانينات.

احد الأسباب لانحدار معدل الرضا الوظيفيى هو فقاعة التنمية البشرية والتطوير الذاتي، القائمة على فكرة اقناعك ان واقعك بائس ويجب تغييره وان هناك جنة تنتظرك ستحققها اذا فعلت كذا وكذا، معدل استخدام.

*بداية السعادة الحقيقية قد تكون في التخلص من مثل هذه النصائح الرخيصة التى تقوم برفع سقف توقعات الشخص وفقط وتجعله ناقم على حياته.

راجع نفسك في مفهوم السعادة والنجاح فليس شرط ان تكون متعلقه بالمسار الوظيفي فقط، استمتع بالتفاصيل البسيطة في حياتك ولا تنتظر لحظة التحول الدرامية فقد لا تأتي ابدا. السعادة في الرحلة ذاتها.

*ملحوظة:
جزء من المعلومات الواردة بالمقال نقلا عن كتاب So Good They Can’t Ignore You لمؤلفه Cal Newport وهو دكتور في MIT.

(مصر)

دلالات