إيليا سليمان (2/ 2): "أعلم أنّي ذاهب إلى المخاطرة الصائبة"

08 يناير 2020
إيليا سليمان: "أفضّل أم كلثوم" (فاضل سنّا/فرانس برس)
+ الخط -
هنا، الجزء الثاني من حوار "العربي الجديد" مع المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، بمناسبة بدء العروض التجارية لفيلمه الأخير "إنْ شئتَ كما في السماء".

اللقطة التي يقول اللبناني فيها متوجّهاً إليك: "أنتم الفلسطينيون غريبون للغاية، الجميع يشربون لينسوا، وأنتم وحدكم تشربون لتتذكروا". هذه لقطة ساحرة. كيف حصلت عليها؟
عليك التقليل من قراءة ما تفعله، أو حتى الذهاب عكس هذه القراءة. هذه اللحظة حدثت معي، عندما كنتُ في بيروت، على شاطئ البحر، حيث اعتدتُ ارتياد مطعم أسماك. أجلس وأشاهد البحر بشيء من الشّجن، فالبحر هناك قريب جداً من بحرنا، حيث إنّنا على بعد بضعة كيلومترات من فلسطين. كأنّنا في فلسطين فعلياً. هذا الرجل اعتاد حضور فلسطينيين كثيرين إلى مطعمه، منذ الحرب الأهلية. تقدّم ورأى أنّي كنتُ حزيناً وميلانكولياً بعض الشيء، فجلس إلى جانبي حاملاً بيده كأس العرق، وقال لي ما سمعته في الفيلم، فسجّلته. اعتقدتُ أنّ هذا جميل، أي ما يقوله امرئ لآخر.

ينبغي أن تبقى الأمور منحصرة في الشعر، كما تعلم. ما إنْ تنزل إلى مستوى الحقائق، حتى تكفّ الأمور عن الاشتغال. يجب أن تبقى في الشعر. ما قاله ليس صحيحاً طبعاً. نحن الفلسطينيون لسنا وحدنا أيّ شيء إطلاقاً.

ما يمكنني إخبارك به عن الكحول في الفيلم، ولديك الحق في نشره أو حجبه، هو أنّي أشرب كثيراً، ويومياً، وأحبّ العرق والخمر حباً جماً.

طريفٌ للغاية أن أسمع منك هذا، لأن المخرج التونسي علاء الدين سليم أخبرني أيضاً أنه يدخن الكثير من القنّب الهندي.
كنتُ معتاداً على تدخينه، لكنّي توقفت بعد "الزمن المتبقّي"، من دون التوقف عن شرب الكحول. أحبّ الكحول.

لهذا السبب نرى هذه الكحول كلّها في الفيلم، لأنّها جزء من حياتك.
هذا جزء منّي. عندما أصوّر نفسي في لقطة معيّنة، جالساً أحتسي خمرة في الشرفة ليلاً مثلاً، فلأنّ الأمور تجري في حياتي بهذه الطريقة. أشرب بشكل ميلانكولي، في عزلة، وتأتيني أحلام يقظة، وعادة تكون كأس النبيذ في يدي. هذا هو سبب ما أضمّنه في أفلامي، وليس هناك سبب آخر. حتى لو سألتني عن أي شيء تريده في أفلامي، ليس في هذا الأخير فقط بل كلّها، أستطيع أنْ أقول لك إنّه جاء من "لحظات واقع واقعية"، سواء حدثت لي شخصياً، أو شاهدتها بعينيّ. هناك بالتأكيد نقطة انطلاق حقيقي من حيث انطلقت. هكذا تأتي صُوَري حقّاً. أرى شيئاً فأدوّنه، ثم ألاحظ أنّه يحمل شيئاً ما، مُضحكاً أو طريفاً أو حزيناً أو أياً كان. أدوّن وأدوّن وأدوّن. أفلامي تأتي أساساً من الملاحظات التي أدوّنها. لذا، فإن البداية تكون دائماً في الواقع، حتى المَشاهد الخيالية التي تراها، أستطيع أنْ أقول لك من أين أتت. دائماً من الواقع.

مشهدان أضحكاني كثيراً. المشهد الذي تشرب فيه على موسيقى صباح فخري، ورأيتُ فيه سخرية على "كليشيه" الشراب عند العربيّ بامتياز، ومشهد مؤتمر العرب المقيمين في أميركا، وهو من بين أفضل ما شاهدتُ هذا العام، حيث تسخر بشكل لاذع من كيفية تعامل العرب مع القضية الفلسطينية. عبد الله القصيمي قال إنّ العرب ظاهرة صوتية، وأنتَ تقول إنّهم ظاهرة تصفيقية.
هذه منظمة عربية في أميركا لم أعد أذكر اسمها. العرب واليهود في أميركا يتشابهون كثيراً، كما تعلم. يرتدون الملابس بالطريقة نفسها تقريباً. يذهبون إلى أماكن المؤتمرات هذه، والسبب الحقيقي الذي يجعلهم يذهبون كامنٌ في التعبير عن مساندتهم قضيةً أو أخرى. هو بحث عن زوج أو زوجة (ضحك). هذا مستوحى من مكانٍ ذهبت إليه في واشنطن قبل 20 عاماً، أي منذ زمن طويل. لا أعرف إنْ كانوا لا يزالون يجتمعون أم لا.

فيما يخصّ توظيف صباح فخري، يمكنك سماعه في أفلامي كلّها تقريباً، في "الزمن المتبقّي" يوجد صباح فخري. نجاة الصغيرة حاضرة هي أيضاً في أفلامي. في الحقيقة، هذه موسيقى أحبّها، وأستمع إليها كثيراً برفقة زوجتي. زوجتي أكثر هوساً منّي بالموسيقى، وبطلها عبد الوهاب، وأنا أفضّل أم كلثوم أكثر. أعتقد أنّ الموسيقى التي تستمع إليها في أفلامي هي موسيقى أحبّها عموماً، لكنّي أستخدم أحياناً شيئاً آخر غير الموسيقى التي أحبّها. مثلاً: لا أحبّ ناتاشا أطلس، وأجد أنّ أغانيها "كيتش"، نوعاً ما. أغنية "عربيّ أنا"، كمثل آخر، ليست شيئاً يمكن أن أستمع إليه في المنزل. استخدمتها لأنها تُناسب المشهد الختامي بالذات، ولأنه مثير للاهتمام أنّ هذا الجيل الفلسطيني الشاب حرٌّ تماماً و"عضوي" للغاية، وليس قومياً أبداً. قابلتهم عندما كنت أصوّر، ولم يكن المشهد الأخير من الفيلم مشهد رقص، بل أنْ تكون المرأة البدوية العابرة بين أشجار الزيتون هي مشهد الختام.

بالفعل، القدر يتحكّم بالأشياء أحياناً. أقول لنفسي "إنّ الأمل المضمّن في هذا المشهد ليس كافياً"، و"إنّ هناك شيئاً آخر أنسب للختام". كنتُ أشعر بالضيق من مُشاهدة الناصرة وهي تصبح الناصرة التي لم أعد أعرفها. الناصرة التي أعرف كانت أكثر رقّة وأكثر حميمية. الآن هي مجرد "غيتو" عنيف، فيه عصابات ومخدّرات. على كلٍّ، كنتُ هناك أستعدّ للتصوير، وكنتُ أتساءل: "لماذا أصبح الوضع مظلماً هكذا". أنت تعلم أنّ إسرائيل كانت ولا تزال تقوم بما يمكنها فعله بشكل أفضل، وهو التدمير والقتل. عندها، أخبروني أنّه يجب عليّ مقابلة الشباب. أخذوني إلى مكانٍ سمعتُ عنه، لكنّي لم أزره أبداً. هناك، اكتشفتُ الشباب الفلسطينيين الذين يؤثّثون صالات عروض كثيرة، فنية وموسيقية، تعبّر عن مقاومتهم بطرق ثقافية. هناك، رأيتُ أقراطاً ووشوماً كثيرة على الأجساد. رأيتهم يشربون ويدخنّون، في تحرّر تام من القيود التقليدية كلّها، ولا يهتمّون أبداً بالسلطة، ويديرون ظهورهم لإسرائيل، ولا ينحازون إلى أيّ حزب سياسي. هم يمثّلون أنفسهم، عضوياً وكونياً، لكن من وجهة نظر حداثية. ينظرون إلى فلسطين ليس كموقع جغرافي يتعلق بالأرض، بل بارتباطها بمفهوم التقدمية، وعدم الاعتماد على اللون أو العرق أو قضايا النوع والجنس. هذا هو الجيل الفلسطيني الجديد الذي أجده في الواقع هنا أيضاً، لكن بشكل مختلف.

الصدفة هي التي حملتني إلى هذه الحانة ـ المرقص، بعد أن كنتُ أبحث عنها 72 ساعة، وأنا أدخّن وأشرب. أحدهم قال لي إنّه ينبغي عليّ زيارة هذه الحانة الفلسطينية، التي يرتادها أشخاص ذوو ميول مثلية وسحاقية. قلتُ: "كيف يمكن لشخصٍ ما أن يفوّت هذا. بالطبع سآتي" (ضحك). كانوا يرقصون بينما تصدح أغنية "عربيّ أنا". ذهبتُ إلى المالك، وقلتُ له: "حسناً، تجهّز للإغلاق، فهنا سنصوّر". طلبتُ من بعض هؤلاء الشباب العودة، وهم من شاهدتهم في الفيلم. الشباب يمثّلون بالنسبة إليّ أمل فلسطين، لا السلطة الفلسطينية أو "حماس"، وهؤلاء الأشخاص الذين ينبغي عليهم الذهاب والتخلّص من أنفسهم في أقرب قمامة، لا تقوم حتى بإعادة تدوير نفسها. إنّهم فظيعون حقاً.
كيف تدير الممثلين في البلاتوه؟ هل تعرف بالضبط ما تريد عندما تأتي للتصوير؟
لا. إذا كنتَ تعرف حقاً ما تريد، ستكون في ورطة. ما تحتاج إلى معرفته، هو أنّي أدوّن ملاحظات دقيقة للغاية. سيناريوهاتي ممهورة بالملاحظات بشدّة، إما فوق المَشاهد مباشرة، أو على الهامش. لديّ فكرة دقيقة عما يحدث، وكيف يدخل الممثلون في الإطار أو يخرجون منه، إلخ. خلاف ذلك، لا آخذ هذا الواجب المنزلي الذي قمتُ به معي إلى البلاتوه. أريد خلق مصدر إلهام آخر أثناء التصوير. أحتفظ بنصّ السيناريو، لكن مع المُساعد، فقط إن احتجتُ إليه. عادةً، أقوم بإذكاء حاسة الإبداع مرة أخرى في البلاتوه. ينبغي أن نستوعب شيئاً واحداً مهماً: إذا طبّقتُ نص السيناريو حرفياً كما هو مكتوب، ككتاب مقدسٍ، سيشعر المتفرّج كأنّه إزاء "ديجا فو".

لذلك، عليك أن تتعبّأ في كلّ وقت، في عملية الكتابة، وأثناء التصوير، وعند المونتاج. يجب أن تكون في زمن المضارع طول الوقت. هذا هو السبب في أنّ الأمر يصبح مرهقاً للغاية، لأنّك يجب أن تكون في حالة تأهّب مستمر. لذلك، أثناء التصوير، أبدأ في إعادة خلق ما قمت بخلقه في ذهني مسبقاً، ومعه يأتي العمل مع الممثلين. الممثلون الذين يعملون معي نماذج. لم يكن لدي ممثلون كثيرون في أفلامي، باستثناء "الزمن المتبقّي".

عادةً، يكون الأمر كوريغرافيا ينبغي إعدادها، بما في ذلك المَشاهد التي أمثّل فيها بنفسي. لكن، إذا كان هناك حوار، فلا بدّ من التدرّب عليه طبعاً. أما إذا كان الأمر يتعلّق بتصميم رقصات، كبعض مَشاهد هذا الفيلم، فيجب أن يتمّ التمرّن عليها قبلاً. إذا لم نقم بهذا، وتركنا كلّ شيء حتى يوم التصوير لمحاولة تحقيق المشهد، سيستغرق الأمرُ الدهرَ كلّه. مثلاً، للمشهد الذي تقوم فيه الشرطة برقصةٍ بالقرب من السيارة في باريس، كان علينا إحضار النماذج إلى هذا الشارع يومين قبل التصوير لتشكيل الكوريغرافيا. البلاتوه يمنحك احتمالات إضافية، لكنّه يعطيك قيوداً أيضاً. لذلك، عليك العمل ضمن الإطار نفسه، وليس فقط وفق الأشياء التي تخيّلتها. أحياناً، تأتي إلى البلاتوه وتضع العدسات، ولا شيء يعمل. يتوجب عليك حينها إعادة خلق كلّ شيء.

فيلمك دخل نادياً مغلقاً يجمع الأفلام التي تحتوي على حبكة مينِمالية تكاد تكون منعدمة، على غرار "هولي موتورز" للفرنسي ليو كاراكس. ألم تتخوّف من سلك هذا الدرب؟
لا. لم أشعر بهذا إطلاقاً. أذكر جيداً ما كان يدور في ذهني عندما قرّرتُ صنع هذا الفيلم. كنتُ أقول لنفسي: "سأذهب إلى أقصى الحدود، أياً كان هذا التطرّف، وستصبح الأضحوكة أكثر طرافة، والرقصة أكثر كوريغرافية". أردتُ أنْ يصبح كل شيء متطرّفاً. حتى الإطار كان متطرفاً، بحكم أنّي صوّرتُ بالـ"سينماسكوب"، وهذا أكثر تشدّداً في معانقة الأفق والتفاصيل. أردتُ فقط الذهاب إلى المخاطرة. لذلك، لم أكن خائفاً إطلاقاً. أحسستُ بشكل ما في هذا الفيلم كما أحسستُ عند إنجاز "يد إلهية". في هذين الفيلم، كان لديّ الشعور نفسه: الإحساس بمزيدٍ من الثقة. يُشبه الأمر هذا، نوعاً ما: "أخذ كلّ شيء إلى نهايته". كنتُ أطلب المزيد كلّ مرّة. لم أكن أرغب في الحصول على مكان واحد أشعر فيه بالراحة. كنتُ أرغب دائماً في نقل الأشياء قليلاً إلى الحافة. وبطريقة ما، كنت متأكداً، لا أعرف كيف، من أن الأطروفات ستشتغل، والسخرية ستعمل، والحزن سيؤتى مفعوله. عشتُ الفيلم بالكامل في ذهني فترة طويلة، لذا لم يكن بالنسبة إليّ حقاً مسألة مخاطرة. كنتُ أعرف أنّي سأذهب إلى... دعنا نقلها: إلى المخاطرة الصائبة.
دلالات
المساهمون