وتواجه باكستان منذ أمد بعيد معضلة الحركات الانفصالية في إقليم بلوشستان، والتي تخوض قتالاً متواصلاً مع الجيش والقوات المسلحة الباكستانية في الإقليم. ولكن لم يخطر ببال صنّاع القرار في باكستان أن قبائل البشتون المتواجدة على الحدود مع أفغانستان، ستنتفض يوماً ما، على الرغم من مشكلة الخط الفاصل بين باكستان وأفغانستان، ومن وجود جماعات تدعو قبائل البشتون على طرفي الخط للتوحّد.
ويبدو أن حسابات صنّاع القرار في باكستان لم تكن دقيقة، بل حتى في أفغانستان، إذ لم يكن هؤلاء يتوقعون أن ترفع قبائل البشتون يوماً ما هتافات تدعو إلى الانفصال. غير أن التغيرات المتسارعة في المنطقة وانشغال الحكومة الباكستانية المتعاقبة بملفات متعددة من جهة، وكون القبائل مركز الصراعات التي شهدتها المنطقة خلال العقد الماضي، جعلت قبائل البشتون في باكستان تتوحّد للمطالبة بحقوقها.
مقتل شاب يشعل الفتيل
انطلقت شرارة الغضب القبائلي أخيراً بعد مقتل شاب من القبائل إثر اعتقاله من الشرطة في كراتشي. وكان الشاب، نقيب الله محسود، المنتمي إلى مقاطعة جنوب وزيرستان، يعمل في كراتشي، وفي الثالث من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي اعتقلته الشرطة من فندق كان يعمل فيه، قبل أن تدعو بعد أيام عائلته لاستلام جثته، مدعية أنه كان مع حركة "طالبان" وقُتل أثناء مواجهة مع رجال الأمن. كما قالت الشرطة إن الشاب كان سائقاً في الماضي لمؤسس حركة "طالبان باكستان"، بيت الله محسود، الذي قُتل في غارة أميركية في العام 2009.
لكن أقارب الشاب والمجموعات القبلية في كراتشي رفضوا ما أعلنته الشرطة، ودعوا الحكومة إلى التحقيق في الحادث، مشيرين إلى أن الشرطة طلبت منه المال وعند رفضه جرى قتله والادعاء بأنه من "طالبان". وفي هذا السياق، قال رئيس نقابة الحفاظ على حقوق القبائل، منظور أحمد، إن ما حدث مع هذا الشاب ليس بجديد، بل إنه يحدث مع الشباب البشتون ومع الأقليات الأخرى، وإنه آن الأوان "لأن نقف في وجه هذا العدوان". وأشار إلى أنه خلال العامين الماضيين قُتل 500 شاب من قبيلة محسود وحدها في كراتشي بذرائع مختلفة، معتبراً أن سياسة الحكومة هي قمع الأقليات، لافتاً إلى أنه "في الكثير من الأحيان تعتقل الشرطة شاباً وعندما يرفض دفع المال والإتاوة يقتلونه بدعوى أنه من طالبان".
قضية مقتل الشاب نقيب الله محسود تفاعلت، حتى أصدرت المحكمة العليا في باكستان أمراً بإقالة واعتقال المسؤول في الشرطة راو أنور، المقرب من زعيم حزب "الشعب" الباكستاني، الرئيس السابق آصف علي زرداري. غير أن أنور اختفى عن الأنظار، ولم تتمكن السلطات من اعتقاله حتى اليوم على الرغم من قرار المحكمة، ومطالبة الاستخبارات بالتعاون لإلقاء القبض عليه.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقبل نحو أسبوع، وبدعوة من شبان قبليين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، اعتصم أبناء القبائل في العاصمة إسلام آباد، تحت مطلب اعتقال ومحاكمة قتلة الشاب محسود. ومع مرور الأيام، انضمت كل القبائل إلى الاعتصام، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق أمس لفضّه. وقالت إحدى المشاركات، إن السلطات اعتقلت ابنيها قبل ستة أعوام من مدينة كراتشي، وبعد أيام قالت لها إن أحدهما قُتل عند مداهمة الشرطة لمنزل كان بداخله عناصر من "طالبان"، أما الآخر فما زال في عداد المفقودين. المرأة باعت منزلها وصرفت الأموال علها تعثر على ابنها ولكن من دون جدوى، كما تقول.
وشهدت الأيام الماضية تزايد مطالب القبائل مع مرور الأيام. وبعد أن كانت تنحصر باعتقال ومحاكمة قتلة الشاب نقيب الله محسود، تصاعدت مطالبها نحو الإفراج عن جميع معتقلي القبائل، بالإضافة إلى القضاء على مراكز المسلحين الموالين للجيش في المنطقة القبلية، ورفع القيود التي وضعها الجيش عليها أخيراً. الأخطر، وهو ما كانت تخشى منه السلطات الباكستانية، هي هتافات مطالبة بالانفصال، وأخرى تدعو إلى وحدة قبائل البشتون على طرفي الحدود الأفغانية والباكستانية.
وعن هذا الأمر، قال الإعلامي المخضرم، المنتمي إلى قبائل البشتون، رحيم الله يوسفزي: "إننا لم نرَ حراكاً قوياً بهذا الحجم لقبائل البشتون منذ استقلال باكستان عن الهند، من هنا فقد آن الأوان لتحصل هذه القبائل المحرومة على حقوقها، لا سيما أن التاريخ حافل بما سطرته تلك القبائل". كذلك أعلن الزعيم القومي، السياسي محمود خان أجكزاي، "أننا لن نقبل ألا تكون حقوق القبائل في باكستان مصانة، لذا ندعو السلطات الباكستانية لاتخاذ خطوات عاجلة قبل أن تخرج الأمور عن سيطرتها".
أما الحكومة الباكستانية وأجهزة الدولة، فركزت على إقناع هؤلاء من خلال علماء الدين والساسة وكل من له نفوذ عليهم، بوقف الاعتصام، ووعدت بأنها ستقدّم الكثير لهم، ولكن كل تلك الوعود لم تكن مجدية. كذلك عملت على إقناع معظم الساسة البشتون بعدم الانضمام إلى الاحتجاج والاعتصام، وهو أمر لم يكن يتوقعه المحتجون والمعتصمون.
توسع التحرك
لم يقتصر تحرك القبائل على الاعتصام في العاصمة إسلام آباد، بل بدأت تتحرك في الداخل القبلي، إذ خرجت قبائل وزير ومحسود وبيتني وسليمان خيل وغيرها، يوم الأربعاء الماضي، إلى الشوارع، وأحرقت مكاتب حركة "طالبان" التي تصالحت مع الحكومة الباكستانية ومكاتب مجالس الأمن. وكان شاب في منطقة ديره إسماعيل خان المحاذية لوزيرستان قُتل قبل أيام على يد قيادي في "طالبان" يدعى مصباح الحق، أحد المتصالحين مع الجيش، ما زاد من غضب القبائل ودفعها لإحراق مكاتب "طالبان" والسيارات الموجودة فيها. وقالت القبائل إن مكاتب مجالس الأمن هي في الحقيقة مكاتب لـ"طالبان" الموالية للجيش الباكستاني، وهي تقاتل في أفغانستان وتحكم مناطق قبلية برضى الجيش. وهذه المكاتب، كما تقول القبائل، تخطف الناس وتعتقلهم. في المقابل لم يعلّق الجيش ولا مجالس الأمن على ما تقوله القبائل.
ولم تتوقف تداعيات هذه الأزمة على الساحة الباكستانية، بل إنها حظيت بدعم كبير في أفغانستان، ليس على مستوى الحكومة والمسؤولين، بل عبر حملات على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. كما نُظمت تظاهرات في كابول، الجمعة، تأييداً لمطالب القبائل. حكومياً، قال مستشار الرئيس الأفغاني، الأمين العام في المجلس الوطني للمصالحة، أكرم خبلواك، إن "جهوداً تحصل لإحلال الأمن في المنطقة، ونحن نساند القبائل لكي تحصل على حقوقها". هذا الواقع الجديد، وصفته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، الأربعاء، بأن قبائل البشتون المضطهدة وجدت أخيراً صوتها في باكستان.