إعادة النظر في الدراما
يسلك الأدب سبلاً صعبة وشاقة للبقاء على قيد القراءة. فمنذ بداية القرن الماضي، مع ظهور السينما وتعلمها النطق، اتخذ موقع الدفاع عن النفس. مواجهة جاذبية التحديات الوافدة لم تكن أمراً هيناً ولا سهلاً. ارهاصاتها كانت مبكرة، تبدت في الاعتداء على الأعمال المسرحية والروائية، بنقلها إلى الشاشة الفضية، مع حجة قوية، تقدم السينما العمل الأدبي بالصوت والصورة، فلماذا عناء قراءة مئات الصفحات، بينما توفر للمتفرج قضاء وقتٍ ممتعٍ على مقعد وثير وصالة مظلمة، دونما بذل جهد عقلي في تلقيها.
لم تسمح الكاميرا الثابتة للسينما إلا بمحاكاة أقرب إلى المسرح. عندما تحركت، انطلقت سواء في الأستديو أو الشارع، وبدأ الفن القصصي بالعبور إليها، من خلال أهم الروايات العالمية. حاولت السينما، قدر الإمكان، التقيد بها، بالاستعاضة بالفرجة عليها عن قراءتها. وحققت نجاحاً يمزج بين المتعة والفكر، في وقت كانت تُعنى فيه بإظهار المطاردات والاستعراضات والوجوه الجميلة، لجمهور متعطش لرؤية أي شيء يتحرك ويصدر أصواتاً، وقصصاً تستدر العواطف.
لم تعوض السينما عن الرواية، مهما بلغت درجة الإتقان والأمانة، في نقلها إلى الشاشة، على الرغم من الأسماء اللامعة التي أخرجت أفلاماً مثل "هاملت" و"أنا كارنينا" و"الأخوة كارامازوف" و"الأحمر والأسود" و"مدام بوفاري".... وغيرها، ولمخرجين كبار، مثل كيروساوا الياباني وكوزنتسيف الروسي وكلود اوتان لارا الفرنسي... لم يستطع أحد منهم أن يحل محل شكسبير وتولستوي وستندال وفلوبير. الخدمة التي قدمتها الرواية للفن السابع لا تقاس، على الإطلاق، بالشهرة التي حققتها هذه الروايات التي استمدت سمعتها من نصها المكتوب، لا من شاشة الصور المتحركة. صحيح أن السينما أطلقت الرواية على نطاق أوسع، يفوق انتشار الكتاب المطبوع، وهذا أمر لا يمكن نكرانه، غير أنها استفادت في رفع سوية الفيلم، من مجرد شريطٍ ناطق وصور متلاحقة، تروي قصصاً بسيطة، أو معقدة، مع ديكورات فخمة وضخمة، إلى السعي إلى طرح موضوعاتٍ، تبدو ثقيلة على متفرجٍ، يريد التسلية والاسترخاء، لكنها طرحت أفكاراً، جعلته يعيد النظر إلى الحياة، ويتأمل ذاته المنطوية في أحداث عصره. أفكار قد ينساها، بمجرد خروجه من القاعة، لكنها تترك أثراً، سواء في الوعي أو اللاوعي.
بدأ التلفزيون من حيث انتهت السينما، فكتّاب الدراما التلفزيونية العربية اعتمدوا على سيناريوهاتٍ، كتبت خصيصاً لهم، ونادراً ما استعانوا بسيناريو مقتبسٍ عن أعمال روائية، اعتقاداً منهم بقدرتهم على توفير مادة ترضي المتفرجين، وقع أغلبه في مجال الترفيه، الحجة أنهم نالوا استحسان جمهور عريضٍ، امتد من المحيط إلى الخليج، ومعه بلدان المهاجر في أوروبا وأميركا. إذا بقينا في نطاق الأعمال السورية، فسوف نجد، ومنذ سنوات، أن معظم أعمالها وقع في فخ الإنتاج التجاري، وباتت تراعي ذوق الجمهور، من حيث الموضة الدارجة من فترة إلى أخرى، مثل الأعمال التاريخية الفانتازية، والدرامات المنزلية، والبيئة الشامية المتخيلة، وقضايا المرأة والجريمة، وكوميديات مقدرتها على الشطط لا تبارى، كانت تسخر من مظاهر السلطة الفاسدة، فأصبحت تسخر من كل شيء، من المظاهرات والتعذيب، إلى الاختطاف والموت... هل هذا متاجرة بآلام الناس، أم الاستخفاف بها؟
من الممكن النظر إلى هذا التاريخ من التنازع بين الفنون، على أنه تقاطعات بينها، وحالات تشارك في التعبير عنها. لو استعادت السينما صواب بداياتها، واستفادت منها، ونظرت الدراما التلفزيونية إلى بؤس حالتها، لما خسرا شيئاً، بل سيربحان من معاودة الاتصال بالأدب، ربما أسبغا على محاولاتهما المقبلة بعض العافية والمسؤولية تجاه الناس الذين تشكل هذه الوسائل، بالنسبة إليهم، أداة معرفة وتسلية وعقل وانفتاح.
إعادة النظر في الدراما، ما أخفقت أو ما نجحت فيه، ضرورة ماسة، إذا كانت قد سجلت نجاحاً تجارياً وحصدت متفرجين، فليس في هذا الكفاية، فهي لم تحرض على إعمال الفكر والعقل، ربما في استدراك ما فاتها، تحرر من السلطات والعقليات التي تتحكم بصناعتها، وطالما لا حرية في التعبير، فلا جدوى من المسرح والسينما والتلفزيون، إلا في مزيد من الكذب والقهر.