على أثر الأحداث الدامية التي ضربت فرنسا مرة أخرى، اندلعت سِجالات إعلاميَّة حادَّة حول استعمال السُّلطات الفرنسية الرسميَّة لِمُصطلحَيْ islamique (إسلامي) وislamiste (إسلاموي، مُتَطرف). وقد تزامن الوصفان وتداخلا في الخطابَيْن السياسي والإعلامي تداخلاً يَشي بِوجود آلية ذهنية أعمق بكثيرٍ من مُجرَّد التَّوافق أو التخالف الرسمي على اصطلاحٍ لغوي، يحيل على وَاقع الإرهاب الذي باتَ يُهَدِّد الغربَ في عُقر داره.
ذلك أنَّ هذا التداخل في توظيف المصطلحَيْن، تَناوباً وتقاطعاً وحتَّى تَصحيحاً، تحكمُهُ تَصوّراتٌ ثقافية عميقةٌ، تكمنُ في خبايا النظام الفكريِّ، (الذي يُسميه ميشيل فوكو: الابستيمي) وهذه التصوّرات هي ذاتها التي تحكم البِنية العميقة للخطاب السياسي والإعلامي الراهن في دوائر القرار العليا في فرنسا.
فمن جهةٍ أولى، يتمثل التَّصوّرُ الثقافي، المُعَبَّر عنه بنعت: "islamiste"، الإرهابَ تشويهاً للدين الإسلامي وانحرافاً عن مَبادئه، تُفضي إليه الحَرْفية في التعامل مع النصوص التأسيسية (القرآن والسنَّة) والتأويلية (كتب التفسير والفِقه والعقيدة)، ويُغذِّيه التعاطي الجافُّ مع بعض تعاليمه، التي توحي ظواهرها الملتبسَة، بالدعوة إلى العُنف والتحريض عليه. ولا يُبرِّئ هذا التصوّر الإسلامَ من تهمة التشدّد هذه، بل يعتبره حاملاً له بالقوة، ويَكفي أن يُساءَ فهمه، ويُتَشَدَّدَ في تطبيقه حتى يُفضي إلى الأصولية والاقتتال.
ويُفضِّل المعبّرونَ عن هذا المفهوم استعمالَ هذا النعت باعتبار أنَّ اللاحقة iste تدلُّ، في اللسان الفرنسي، على الانتماء الخاطئ إلى مذهبٍ والمغالاة في مناصرته. فيصيرَ المفهوم مرادفاً للتطرّف والأصولية في قِراءةٍ سائدة في الأوساط المحافظة، تفسّر الانحراف بالنصوص الدينية ذاتها، لأنها تَتضمن بذورَ التطرُّف أصالةً، حتى يصير كل عدولٍ عن النمط الغربي في العيش "تطرّفاً". على أنَّ مزية هذا النعت أنه يسمحُ، في ذات الآن، بإخراج بقية المسلمين من طائلة الاتهام، كما يفتح المجالَ لقبول العناصر الإسلامية "المعتدلة".
وفي الجهة المقابلة، يَعتبرُ التصوّر الثاني، الذي يُلخِّصُه وصف islamique، والذي يسود في أوساط أقصى اليَمين ومَن تَأثر بخطابهم من النُّخب العربية، الإسلامَ أصوليّاً في جَوهَرهِ وطبيعته، حاملاً بالفعل - لا بالقوة - لبذور العنفِ، مُحرِّضاً على التوسُّع والانتشار، لأنه دين يتأسس، أصالةً، على ما سَمَّاه محمد أركون تقاطع الدالات الثلاث (دين - دولة - دنيا)، ولا بدَّ أن يفضيَ التداخل بين هذه المُقومات إلى عنفٍ يُحاط بهالات التقديس.
وعليه، فلا غضاضةَ في ربط النعت (إسلامي) بالأعمال الإرهابية بما أنه يحيل على مبدأ بنيويٍّ، العنف جزءٌ لا يتجزَّأ منه. ويعضد هذا الربطَ ما في التراث الديني من نصوصٍ مُتشابهة، يدعو ظاهرها إلى القتال، وتَدعمها شواهد التاريخ من مَعارك وحروب طاحنة جرت بين المسلمين وغيرهم. وكما بَيَّن المؤرخ التونسي هشام جعيط، في ثنايا كتابه "أوروبا والإسلام"، الصادر منذ أربعة عقودٍ، فإنَّ هذا التصوّرَ يستندُ إلى مقارنَة غير واعيةٍ بين المسيحية بما هي رسالةٌ لإقامة مَلكوت الله في السماء، وبين الإسلام بما هو تجسيدٌ لأمَّة سياسية لا بدَّ أن تَتَمَدَّدَ دولتها وتتمكَّنَ في أرجاء الأرض. يسمح هذا النعت باعتبار كلِّ ما هو إسلامي مرادفاً للتشدّد ورفض الآخر، ويبرّر لإقصائهِ وإبعاده من دائرة الجمهورية.
وأيّاً ما كان التوصيف المُوظَّف للدلالة على الأعمال الإرهابية في مناقشات الساسة والمحللين، فهو يَندرجُ في مسار ذهني - سياسي معقدٍ، محكوم بضرورة إيجاد "آخَرَ" يُقرَنُ به الشرُّ المُطلق، كأنَّ الشعور الجمعيَّ، وما يُحَرِّكُه من رموز ثقافية متأصلة في اللاوعي الشعبي، هو الذي يديرُ، من خَلف ستارٍ، عَملية التسمية ضمن السرديات السياسية، ويُملي على السلطات الحاكمة إعادة إنتاج هذه الثنائية الضدية بين أوروبا والإسلام، بين الأنا المُتَحضِّر، والآخر الظلامي، وكأنَّ رحى المعركة يدور قطباها بَينَ نظامَيْ قيمٍ، لا بين مِيزانَيْ قوى إقليمية، سياسية واقتصادية. واللافت في هذا الاشتغال للآلية الثقافية، الحاكمة في إنتاج خطاب الساسة الفرنسيين، والمُوَلِّدَة للمعقولية فيه، هو التغييب الكلي لِمَبادئ القانون الجِنائي (الغربي) مثل مبدأ افتراض البراءة وضرورة التحقيق والتثبّت وحق الدفاع.
على أنَّ هذه الآلية الذهنية لا تختلف في جوهرها عَمَّا يسود في المشهد الإعلامي العربي، ولا سيما في المجتمعات التي تنقسم فيها الطبقة المثقفة إلى "عِلمانيين" و"إسلاميين"، على ما في هذا التقسيم من تسرّع. فجلُّ المثقفين والمُحللين فيها، أكانت خلفياتهم الثقافية عَربية أم غَربية، في حَرَجٍ من هذا التلازم "المُزعِج" بين الإسلام والإرهاب، ولم يَعد مقنعاً ولا كافياً مُجَرّد اتهام التنظيمات الإرهابية بتشويه الدين ورميها بالمغالاة فيه.
وشواهد هذا الحرج كثيرة، منها ازدواجية خطاب العلمانيين، ومنها - ولكن على صعيدٍ مغاير، حَرج مؤسسة الأزهر وتَخَبُّطها في توصيف الفِئات المتطرفة واعتماد مقاييس الكفر والإيمان القروسطية، ومنها أيضاً التمييز المقيت بين ضحايا الإرهاب الذين سقطوا في أوروبا عن أولئك الذين سقطوا في البلدان الفقيرة. وللخُروج مِن هَذا المَأزق المَفهومي، صاغَ الخطابُ العربي بدوره مُصطلح "إسلامي" الذي قابله وضَادَّه بنعت: "إسلاموي". فَلئن دلَّ اسم النسبة الأول على الدين في جوهره الصافي وحقيقته المتعالية، أحالَ الثاني على التأويل المُنحرف والتوظيف المؤدلج له. وللتذكير فإنَّ اللاحقة "ــوي" باتت تدلُّ في العربية المعاصرة، مع شُحْنَةٍ سَلبية، على الاستعمال المغلوط والمغالي لمذهبٍ فكريٍّ ما، مثلما هو الشأن في كلمات: شَعْبَوي، مَاركسَوي وقوموي.
وهكذا يقومُ هذان المُصطلحان، في المشهد الإعلامي الراهن على اختلاف لغاته، على بنية ابستيمية ضدِّية واحدة: تَقسم الممارسات والأفكار إلى حقٍّ وباطلٍ، بل إلى خَير مطلق وشر مطلق، وكلاهما يستند إلى نظرة جوهرانية للعالم، لا تأخذ بعين الاعتبار ما في ظواهره الاجتماعية، مثل التديّن والفعل السياسي والإنتاج الاقتصادي، من أبعادٍ أنثروبولوجية معقدة. ولن يتسنى الفهم العقلاني لهذه الظواهر المُستعصية إلا بِكسر بَداهة الارتباط المُفتَرَض بين الدين والإرهاب، وتعليل الأخير بأسبابه الأصلية التي وإنْ عَبَّرت عن نفسها بسردية دينيَّة، فما هي إلا خاتمة مَطافٍ بَاهتة، في مسارٍ من التَّشدد الناتج عن شروطِ الاقتصاد القاسية وظروف المجتمع العاتية وآلام التهميش.
بفعل التكريس، تتحوّل الخيارات اللغوية إلى مسارات تفرض شروطها على مستخدميها. استعمال "إسلامي" أو "إسلاموي" هو الوقوف على بوابة أحد هذه المسارات، والتي على اللغويين والفنانين والسياسيين والصحافيين التفكير في تجاوزها، في سبيل أن ينظر هؤلاء للمجتمع في بَراءَته، بعيداً من إملاءات التاريخ الوسيط ورمزيات التعادي بَين الحضارات، فيصوغوا خطاباً تَهديه بَوصلة الفعل العادل، لا شعارات واهية لخوض المعارك.