إسرائيل وكرة البينج بونج

22 أكتوبر 2014

مصلون في المسجد الأقصى (يناير/1996/أ.ف.ب)

+ الخط -

قامت إسرائيل بحملة إعلامية، أتقنت تمريرها على العالم، عندما سمحت لأهل غزة بالصلاة في المسجد الأقصى. ولم تذكر في الحملة، التي توافقت مع الوضع السياسي الراهن المشتعل، سواء في المطبخ الفلسطيني، أو في العالم العربي، أنها حددت سنًّا معينًا لمن يرغب في الصلاة من الجنسين. ولم يعلم أحد أنها أرغمت هؤلاء المصلين على أداء صلاتي الظهر والعصر؛ جمعًا وقصرًا، ولم تسمح لهم بالتجول في المناطق المحيطة بالحرم القدسي، وفرضت عليهم العودة إلى حافلاتهم في وقت محدد، مع التحفظ على بطاقاتهم الشخصية، وبعد عرض أسمائهم للفحص الأمني، ودفع رسوم "الرحلة!" التي تعتبر تعسفيةً، مقارنة بتكلفة الرحلة الاعتيادية. كما وضعت شرطا أساسياً هو تحديد سن الستين، ثم الثانية والخمسين، لمن يرغب في الصلاة، وقد سارع الغزّاويّون لتسجيل أسمائهم، إذ لم يتردد كبار السن المرضى والمنهكون من السعي إلى كسب الأجر والثواب. وجاءت هذه المنحة لأهل غزة تزامنًا مع عيد الأضحى؛ سياسة إعلامية لـ "تلميع" إسرائيل؛ لتظهر أنها تحترم أعياد الفلسطينيين المسلمين، وتوحي للعالم بأنها تمنح الفلسطينيين حرية العبادة والصلاة في القدس.
شروط الاحتلال وإجراءاته بحق أهل غزة، الذين أدوا الصلاة في "الأقصى" أخيراً، لا تختلف كثيرا عن إجراءاته اللاإنسانية بحق الأسيرات الفلسطينيات، اللواتي يداهمهن المخاض في الزنازين، ويُحملن مكبلات إلى المشفى، ويضعن أطفالهن، وهن مقيدات إلى السرير.
إسرائيل، تزامنًا مع هذه الخطوة، أوغلت في عدوانها على المسجد الأقصى؛ لتستخدم سياسة كرة "البينج بونج"، الشهيرة بضرباتها المرتدة على الجدران؛ والتي ترهق اللاعب وتثير المتفرج فقط، وهكذا فعلت إسرائيل، فهي أشغلت العالم بالخطوة، التي أسمتها "حسن النوايا"، فيما ضاعفت من عدوانها على المسجد المبارك، بطريقة همجية ووحشية، تتحدى فيها الإسلام والمسلمين، قبل الفلسطينيين.
لم  تكن هذه الاعتداءات الأولى؛ فمنذ احتلت إسرائيل القدس في 1967، بدأت ممارسة شتى أنواع الانتهاكات للوصول إلى غرضها، بناء هيكلها المزعوم مكان المسجد الأقصى، فأقدمت على هدم حارة الشرف وحارة المغاربة الواقعة أمام الحائط الغربي للمسجد الأقصى (البراق)، وفيها نحو 1012 بيتًا تاريخيًا ومدارس ومساجد، وشرد المستوطنون السكان، وأقاموا حياً استيطانياً مكان الحارتين المذكورتين، إضافة إلى حرق المسجد الأقصى في 1969، وما تلاه من انتهاكات، كان منها استباحة شارون الاستفزازية في عام 2000 المسجد الأقصى، وأدت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية .
لا يمس الخطر المحدق بالأقصى فلسطين فحسب، لكنه يمس المسلمين عامة؛ لمكانته الدينية المعروفة لدى المسلمين، وإن ما تقوم به إسرائيل من اعتداءاتٍ بحقه، عبر شخصيات رسمية، وبحماية قوى الأمن الإسرائيلية، هي عملية جس نبض للحكومات العربية والإسلامية وشعوبها، التي يقابلها عدم الحراك الفعلي، والاكتفاء بالشجب والاستنكار، وهو ما يشكل إشارة لمنح إسرائيل الضوء الأخضر؛ للاستمرار في مخططها لهدم المسجد الأقصى، والذي سيشعل المنطقة بحروب دينية، ستطال كل العالم الذي يعتبر أن ما يحدث، الآن، بعيد عن ملعبه، ويقف منه موقف المتفرج من لاعب البينج البونج.
فلسطينياً، غياب خطة وطنية لإنقاذ المسجد الأقصى، وعدم وجود سياسة واضحة تجاه القدس، أدّيا إلى إضعاف المؤسسات الوطنية في المدينة، وهي التي كانت تشكل عناوين في مواجهة الاحتلال على مستوى فلسطين عامة.
كل ما يحدث بحق أقصانا ذكّرني بجدّي، حين كنا نلتف حول موقده في أمسية شتوية؛ إذ حدثنا عن لقائه بضابط انجليزي في أثناء وظيفته في سكة الحديد، قبل النكبة، والذي قال له، بما يشبه النبوءة، واتهمه جدي حينها بالخرف: أنتم أيها العرب المسلمون ستنتهون قريبًا؛ لأنكم ستفقدون أشياء ثمينة، لا تقدرون قيمتها واحدة تلو الأخرى: ستفقدون صوت أم كلثوم، وصوت عبد الباسط عبد الصمد، وصوت الأذان في المسجد الأقصى.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.