إذاعة جيبوتي.. حين تُغيّب أصوات المقاومة

24 ديسمبر 2014
الإذاعة والتلفزيون في جيبوتي لم يواكبا التطور الإعلامي
+ الخط -

أُسست إذاعة وتلفزيون جمهورية جيبوتي في عام 1940. وكانت منذ ذلك الوقت حتى عام 1967 محطة راديو تبث بذبذبات محلية في العاصمة باللغات (الصومالية والعفرية والعربية، إضافة الى لغة المستعمر الفرنسي)، وكانت وكرا لبث سموم الاستعمار، وتحقيق هيمنة ثقافته وتفوق الرجل الأبيض، مما يؤدي إلى إيجاد جيل فرنسي أكثر من الفرنسيين. وفي عام 1967 أسست السلطات الفرنسية قناة تلفزيونية محلية لتصبح الإذاعة والتلفزيون في مقرهما الحالي، تحملان هذا الاسم حتى يومنا هذا، وخلال تلك الفترة قدمت الإذاعة عشرات البرامج معظمها برامج ترفيهية واجتماعية وإخبارية وتحليلية وتاريخية ورياضية، إلى جانب الإعلانات بالطبع، وكانت اللغتان العربية والفرنسية لغتين رسميتين فيها، وغالبا ما تكون البرامج الاجتماعية والشبابية باللغة الصومالية والعفرية، وأحيانا باللغة العربية.

وإذا كان الإعلام وسيلة لتوعية المجتمع وتعزيز قيمه، فإنّ الإذاعة والتلفزيون الوحيدين في الجمهورية لم يواكبا التطور الإعلامي الذي مرّ به العالم خلال العقود الأربعة الماضية، وإنّما كانا يسجلان تراجعا مخيفا من حيث المحتوى والأداء، ومن حيث الاستقلالية عن السلطة التنفيذية كذلك، وباتتا في العقد الأخير وسيلة إلهاء وتخدير للمجتمع، وفرغا من المضمون الإعلامي، إلى آلة للمديح والثناء لشخص الحاكم، حتى أصبح المشاهد الجيبوتي يلجأ إلى مشاهدة وسائل الإعلام الصومالية رغم غياب الدولة في هذا البلد، وذلك بعد أن اتخذت الحكومة الجيبوتية سياسة تكميم الأفواه، وعليه يمكن للمتابع للمشهد الجيبوتي أن يلحظ صورتين للإعلام الوطني من حيث الممارسة وحجب الحقيقة عن المشاهد:

الصورة الأولى: محاربة الفنّ، عندما ننظر إلى عالم الفن في جيبوتي، فإن نعمة جامع مجل، فنانة مشهورة وهي سيدة الغناء الجيبوتي، وكان وجهها مألوفا على شاشات التلفزيون المحلي، وصوتها العذب كان سمة بارزة للإذاعة والتلفزيون الوطني على امتداد العقود الأربعة الأخيرة، وكان يعطي طابعا متميزا ونكهة منعشة لمذاق الفن الجيبوتي، ولم يعف رسم صوتها حتى الآن من القلوب وإن نسجتها رياح النظام من كلّ حدب وصوب، ولكنّ هناك أمراً مخزياً حقاً، وهو أن جميع الأعمال الفنية للفنانة منع بثها رسميا في الإذاعة والتلفزيون منذ أربع سنوات، وفق قرار، جاء نتيجة للسياسات الفردية التي تعتبر إحدى العاهات التي يعاني منها مجمل الأداء العام في البلد، وخاصة الإعلام المدجن، ولا شك في أنها تؤدي في النهاية إلى نخر جسد الوطن وفقدان الثقة في ميزان الحق والعدل.

ولقد شمل هذا القرار كذلك الأغنيات الثنائية التي كانت نعمة جامع تؤديها مع الفنانين الكبار في العصور الذهبية للفن، من أمثال سعيد وعبدو ابنا حمرقود، وعبد نور الإله، وفطون دعالة ولطيفة حاج وغيرهم، وليست القوادم كالخوافي كما يقال، لأن هذه الثلة كانت في طليعة المجاهدين أيام الاحتلال الفرنسي، عندما كانت تهب رياح الكفاح ضده في معظم أرجاء القارة الأفريقية.

المسرحيات الهادفة والثرية بالمشاهد الفنية التي كانت غاية في الروعة والتأثير، والأغاني الوطنية التي كانت تثير المشاعر وتضرب على أوتار العاطفة وتترك رنينها في مراسيم عيد الاستقلال مثل أغنية gabban mayno، والتي دكت معاقل الاحتلال، وغيرها، لا أحد يعلم مصيرها، ولكن تساورنا مخاوف وشكوك قوية حول تعرض هذا التراث الثقافي الضخم للتلف المتعمد من قبل الجهة التي تقف وراء منعه من البث، وهكذا طويت صفحة الفن ولم يبق إلا أن تتطور الأمور لتأخذ بعداً أسوأ، لنسمع يوما من الأيام منع النشيد الوطني من البث، وذلك يأتي بعد أن يتهم مؤلف نغماته وكاتب كلماته بعدم الانصياع للنظام، ويوضع في سلة واحدة مع نعمة جامع.

الصورة الثانية: إقصاء العلماء المؤثرين من وسائل الإعلام، في هذا الملف تكون الصورة أوضح والكلمات أعمق، ذلك أن المزاج السياسي الذي أشرنا إليه والتصرفات الصبيانية، لم يقفا عند حدود حظر الفن، ولكن ذهبا إلى ما هو أبعد، بحيث لم يسلم منه العلماء ورموز الدعوة الإسلامية المعروفين في جيبوتي، فمحاضراتهم منعت من البث عبر وسائل الإعلام الرسمية، لا لشيء إلا لأنهم رفعوا أصواتهم وأشاروا ببنانهم إلى الجروح الغائرة التي يتهامس بها الناس. والمثير للدهشة أنّ النّظام ذهب يستأجر علماء مدجنين من دول الجوار لتصدّر المشهد الديني في وسيلتي الإعلام الوطنيتين.


*جيبوتي