لا تزال المعارك مستمرة على أشدها بين قوات النظام ومليشيات مساندة لها من جهة، وقوات المعارضة من جهة أخرى في جنوب محافظة إدلب شمالي سورية، رغم الظروف الجوية الصعبة ووعورة المنطقة التي تدور فيها الاشتباكات وأرضها الطينية التي من شأنها أن تعيق عمليات التقدم لأي من الطرفين.
وشنت قوات النظام هجوماً جديداً على محوري أم التينة وأم جلال جنوبي شرق إدلب، من ضمن محاولاتها المستميتة لإحراز تقدم باتجاه المحوريين. وذكرت صحيفة "الوطن"، الموالية للنظام، أن "الجيش السوري استأنف عملياته العسكرية على محور أم التينة بريف إدلب الجنوبي الشرقي، وخاض معارك عنيفة مع إرهابيي جبهة النصرة وتوابعها في تلك المنطقة". ونقلت عن مصدر ميداني قوله إن "المجموعات الإرهابية المسلحة اعتدت بالصواريخ على نقاط للجيش في محور الحاكورة بسهل الغاب الغربي، اقتصرت أضرارها على الماديات، مؤكداً أن الجيش ردّ باستهداف مواقعها بنيران مدفعيته الثقيلة التي حققت فيها إصابات مباشرة".
يأتي ذلك في وقت يكثف فيه سلاح الجو الروسي، وذلك التابع لقوات النظام، من غاراته على مناطق الاشتباك، لإجبار مقاتلي المعارضة على التراجع عن النقاط التي تنوي قوات النظام دخولها. كما شنت مقاتلات تابعة للنظام غارات على قرى وبلدات بعيدة عن نقاط الاشتباك، موقعة إصابات وضحايا في صفوف المدنيين. واعترفت الصحيفة الموالية للنظام بشن تلك الغارات، مبررة ذلك على لسان مصدر عسكري بأنها "استهدفت مواقع الإرهابيين ونقاط تمركزهم في كفرنبل والبرسة وحاس ومعرزيتا ومعرة الصين وكفروما وكرسعة وحزارين وكنصفرة وكفر شلايا وإحسم ومحمبل وفركيا والفطيرة ومعرة ماتر وجبالا وأورم الجوز وجبل الأربعين وبزابور وحنتوتين وصهيان والتح وحران والدار الكبيرة، ما أسفر عن مقتل العديد من الإرهابيين وجرح آخرين وتدمير عتادهم الحربي".
وأعلنت "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، عبر منصات إعلامية قريبة منها، أنها قتلت ثمانية عناصر من قوات النظام وجرحت 12، بينهم قائد مجموعة، خلال محاولة قوات النظام التقدم إلى قرية أم جلال. وأعلن مصدر عسكري في "الهيئة" مقتل نقيب و5 عناصر من قوات النظام، وجرح آخرين خلال المعارك العنيفة الجارية على محور أم التينة جنوب شرق إدلب. كما أعلن سقوط 5 قتلى من قوات النظام بينهم قائد ميداني وجرح آخرين في قرية المشيرفة و"الكتيبة المهجورة"، جراء استهدافهم من قبل مدفعية "تحرير الشام". من جهتها أحصت "الجبهة الوطنية للتحرير"، التي يشارك عناصرها بقوة على محاور الاشتباك في الريف الجنوبي، مقتل نحو 30 عنصراً من قوات النظام منذ بدء الاشتباكات، وأن عناصرها دمروا العديد من الآليات للقوات المهاجمة، في سبيل صد تقدمها. وقال المتحدث باسم "الجبهة الوطنية للتحرير" النقيب ناجي المصطفى، لـ"العربي الجديد"، إن "محاولات قوات النظام للتقدم باتجاه محوري أم التينة وأم جلال لا تزال مستمرة الجمعة، لكن قواتنا تمكنت من صد كل محاولات التقدم ولا سيما يومي الخميس والجمعة، مع إيقاع خسائر فادحة في صفوف القوات المعادية". وأضاف المصطفى أن "فوج المدفعية في الجبهة الوطنية للتحرير استهدف غرفة عمليات لقوات النظام في قرية خيارة، وداخلها غرفة للإشارة والرصد، وتمكنت من تدميرها وقتل العديد من أفرادها، ولا يزال مقاتلونا يصدون كل محاولات التقدم، سواء في الريف الجنوبي أو الشرقي من إدلب، أو على جبهات الكبينة في ريف اللاذقية".
يأتي ذلك، في وقت تبحث فيه تركيا عن خيارات سياسية تحالفية وربما تفاوضية، غير تلك التي تربطها مع روسيا والولايات المتحدة. وإن كانت النتائج الكاملة للقمة الرباعية التي جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون، على هامش قمة قادة حلف شمال الأطلسي في لندن أخيراً، لم تخرج إلى العلن، إلا أن أجنداتها كانت واضحة، ببروز اسم إدلب على رأس جدول الأعمال، إذ شدد البيان، الذي نشره مكتب رئيس الوزراء البريطاني، على "ضرورة وقف الهجمات ضد المدنيين في سورية وتحديداً داخل محافظة إدلب".
ولا شك أن تعنت روسيا ومعها النظام أو التلويح، على الأقل، بشن عملية واسعة باتجاه إدلب، أمر يقلق الأوروبيين أكثر من غيرهم، وعلى رأسهم ألمانيا، التي تخشى من موجات جديدة لتدفق اللاجئين نحوها، وتسعى لإيقاف أي عملية عسكرية باتجاه إدلب، التي باتت تؤوي أكثر من 3.5 ملايين سوري، وستحاول تكريس ذلك بالضغط على الروس بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا وتركيا. ويبدو أن النسخة الثانية من القمة الرباعية، في فبراير/شباط المقبل، بحسب ما أعلن أردوغان، ستبحث أكثر في تفصيلات هذا الأمر، وستسعى الدول الأربع إلى الضغط أكثر على موسكو لإقناعها بإيقاف هجمات النظام نحو إدلب تفادياً لكارثة إنسانية.
إلى ذلك، أكد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، خلال مشاركته في أعمال منتدى "الحوار المتوسطي" في روما، أمس الجمعة، بقاء قوات بلاده في سورية حتى تحقيق تسوية سياسية. وقال: "ملتزمون أكثر من أي دولة أخرى بوحدة أراضي سورية، وعملياتنا استهدفت فقط الإرهابيين. وبطبيعة الحال لا يمكن الحديث عن احتلال سورية. عندما كنا نقاتل داعش شعر الجميع بسعادة، لكن الآن بعض أعضاء التحالف الدولي، بينهم فرنسا، يردون بشكل مبالغ فيه على العملية ضد المسلحين الأكراد لأنهم يريدون دعم الأجندة الانفصالية لهذه التنظيمات الإرهابية".
ورأى الكاتب والمحلل السياسي درويش خليفة أن القمة كانت "فرصة لكسر الجليد، ولا سيما بين فرنسا وتركيا، خصوصاً أن العلاقات الفرنسية التركية ساءت في الأسابيع الأخيرة بسبب تصريحات الرئيسين، ورفض فرنسا المطلق للعملية التركية شمال شرق سورية". وأضاف خليفة، لـ "العربي الجديد"، "أما بخصوص إدلب فإن القادة الأربعة اتفقوا على أن الهجمات الروسية على قطاع إدلب، واستهدافها المراكز المدنية الحيوية، كالمستشفيات والمدارس ومراكز الدفاع المدني والأسواق الشعبية، ستشكل كارثة إنسانية كبيرة يصعب على تركيا احتواؤها كونها الجارة الشمالية لسورية، أي الأقرب جغرافياً، والضامن لفصائل المعارضة في مسار أستانة العسكري، وكذلك في ظل انقطاع الدعم المقدم من الاتحاد الأوروبي بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على مساحات واسعة من إدلب. ومن الواضح أن دور الأوروبيين في إدلب سيقتصر على تقديم المساعدات الطبية والإغاثية للنازحين الفارين من بيوتهم، والذين يبيتون تحت أشجار الزيتون على الشريط الحدودي مع تركيا".
وحول الضغط على روسيا لإيقاف هجماتها على إدلب بناء على نتائج القمة، أشار خليفة إلى أنه "إذا كان سيحصل ضغط على الروس و(بشار) الأسد، فأرى أن الأميركيين هم الأقدر على ذلك وليس الأوروبيين، باستثناء الدول التي تتشابك مصالحها الاقتصادية مع روسيا. تركيا أصبحت تناور على ضفتي الفرات مع القطبين الكبيرين، روسيا وأميركا، وأصبحت ملفاتهم متشابكة أيضاً، أي ما تخسره في إدلب يجب أن تعوضه في شرق الفرات، والعكس صحيح. أما الأوروبيون فمن الواضح أنهم يعيشون حالة من التخبط بين حماية حدودهم ومنع تدفق المزيد من اللاجئين، وبين الحفاظ على هيبتهم الدولية بأن يكونوا فاعلين في جميع القضايا الدولية، بما فيها الشرق الأوسط".
من جهته، رأى الصحافي والمحلل السياسي التركي هشام غوناي أن "الرئيس التركي عاد بخفي حنين من القمة الرباعية في لندن، فهو لم يستطع إقناع المجتمعين معه بأحقية تركيا في القضاء على تنظيم قوات سورية الديمقراطية (قسد)، فالأوروبيون ومعهم الأميركيون لا يزالون يرفضون اعتبار هذا التنظيم كمنظمة إرهابية، بل على العكس يعتبرونه حليفاً لهم في محاربة داعش. أما فيما يتعلق بإدلب، فأظن أن الاتحاد الأوروبي، ومعظم دوله كما نعلم أعضاء في حلف شمال الأطلسي، إلى جانب الولايات المتحدة، ضد التنظيمات التي تسيطر على أغلب مساحة إدلب، والتي لديها اتصالات غير مباشرة مع تركيا. ولذلك أعتقد أن الدور الأوروبي لن يكون رادعاً أو قوياً في الحيلولة دون وقوع عمل عسكري روسي لإعادة سيطرة نظام الأسد عليها. وأوراق أنقرة باتت تنفد في هذا السياق، فإصرار تركيا على إقناع المجتمع الدولي بتصنيف قسد كمنظمة إرهابية تهدد أمنها القومي شرق الفرات، يعطي ذريعة لنظام الأسد وحليفه الروسي بالإصرار على القضاء على التنظيمات في إدلب، ولا سيما هيئة تحرير الشام والتنظيمات والفصائل الأخرى التي تهدد النظام والروس".
وحول الملفات العالقة للبحث في القمة الرباعية، أشار غوناي، في حديثه مع "العربي الجديد"، إلى أنه "لا يزال هناك فترة طويلة حتى ذلك الموعد، والأمور تجري بسرعة في سورية وفي أكثر من بقعة، والتوازنات تختلف بشكل يومي، لذلك يصعب علينا التنبؤ بالمواضيع التي ستناقشها تلك القمة، إذ ربما تكون روسيا والنظام أطلقا عملية ضد إدلب، وربما نشهد متغيرات سياسية وميدانية مختلفة. لكن لنفترض أن الأمور بقيت على حالها، فإن تركيا ستحاول كأولوية، البقاء في الشمال الشرقي من سورية لتأسيس المنطقة الآمنة التي من شأنها أن تؤمن حدودها الجنوبية مع سورية، ومن الممكن إقناع دول الاتحاد الأوروبي بهذا الأمر. لكن أعتقد أن استمرار الوجود التركي في إدلب، من خلال نقاط المراقبة، بات على المحك، وأتوقع أن يكون هناك انسحاب من هذه النقاط في المرحلة المقبلة، في حال أصرت روسيا على القضاء على التنظيمات في إدلب".
ورغم أن إدلب مشمولة باتفاق روسي- تركي في سبتمبر/أيلول 2018 ضمن قمة سوتشي بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وقبلها مباحثات أستانة، واعتبارها منطقة "خفض تصعيد" تضم كامل إدلب وأجزاء من ريف حماة الشمالي وحلب الغربي واللاذقية الشرقي، إلا أن قوات النظام تقدمت في إبريل/نيسان الماضي، وسيطرت على مناطق واسعة جنوب هذه المنطقة. كما لا يزال الروس والنظام يشنون غارات يومية مستهدفين المدن والبلدات، رغم إعلان موسكو وقفاً لإطلاق النار أواخر أغسطس/آب الماضي، وقد شهدت الأسابيع الأخيرة محاولات من قوات النظام للتقدم باتجاه محاور في ريف إدلب الشرقي الجنوبي وهو ما تحاول المعارضة منعه.