إخفاق أخلاقي وفشل إنساني

14 نوفمبر 2016

(عصام معروف)

+ الخط -
يميل ناسٌ كثيرون، بطبيعتهم، إلى التنافس، وإلى الانحياز المطلق للذات والتواطؤ المكشوف، لتمرير عيوبهم وأخطائهم واختلاق الذرائع لحمايتهم من اللوم والمحاسبة، يعمدون، في سبيل ذلك، انتهاج منطق تبريري في تعاطيهم مع الآخر. ومهما بلغت درجة مثالية الفرد، ومدى اعتناقه قيم الخير، ومهما تحلى بالقدرة على نكران الذات في حدّها الأقصى التي تقتصر على القدّيسين والملائكة، إلا أنه، وعند اللحظة المفصلية الحاسمة، المتعلقة بمصلحته مباشرة، لن يفضّل أحداً على نفسه. تلك طبيعة الأمور، وعلينا أن نعترف بها على الأقل. قيل قديماً، وفي تأكيد هذه الطبيعة البشرية المؤسفة: "يا روح ما بعدك روح". وفي مثل شعبيٍّ لا يقل بلاغةً في السياق نفسه قيل: "الله لا يفرح حدا وقلبي حزين" (!). هذه طبيعة إنسانية متفاوتة بين البشر، وهي نتيجة طبيعة لغريزة البقاء فينا، كما أنها تعكس الجانب البهيمي الغرائزي في النفس الأمّارة بالسوء أحياناً.
من البديهي أن الحيوانات في البرية تتصارع بضراوةٍ على الطرائد، وتفتك، من دون أدنى إدراك لمفهوم الرحمة بمخلوقاتٍ أضعف منها، وتتصدّى لمن يهدّد أمنها، وذلك في استجابةٍ غريزيةٍ لشرط الطبيعة. وللأسف الشديد، لا يختلف الأمر كثيراً في حالة بني البشر، وسوف نخلص إلى هذه النتيجة ببساطةٍ، في حالة استعراض تاريخ الإنسانية، ليس ابتداءً من تلك القنابل النووية التي أجهزت على ملايين الأرواح بكبسة زر، وهذه المجازر والمذابح المعاصرة المنقولة في بثٍّ حيٍّ ومباشر عبر الفضائيات، ولعل في مظاهر الظلم والعدوان والقتل والاعتداء الوحشي على المستضعفين، تأكيداً على قدرة الإنسان على اقتراف البشاعة المقترنة بتاريخ البشرية، بل منذ الجريمة الأولى التي قتل فيها الأخ أخاه، بفعل تعاظم مشاعر الحقد والحسد.
وقد كشفت حوادث وكوارث قابلية الإنسان، في ظرفٍ معين، على تجسيد فكرة القسوة بأشد تجلياتها، إذا كان ذلك في سبيل البقاء، وما نزال نذكر حادثة تحطم طائرة شهيرة منذ سنوات، ضمت أعضاء فريق كرة أميركي، أقدم فيها ناجون، وهم بالمناسبة أشخاص أسوياء، بملامح طبيعية يرتدون ثياباً عادية، وليس لهم مخالب أو أنياب، ولا يغطّي أجسادهم فراء مرقط، ولا يزأرون في العادة، أقدموا على التهام لحم رفاقهم الموتى التي حفظت جثثهم تحت الثلوج المتراكمة، في وجباتٍ متتاليةٍ، باعتبار ذلك وسيلةً وحيدة للبقاء على قيد الحياة.
بطبيعة الحال، تظل تلك حالاتٍ استثنائية قصوى، يمكن تفهمها من منظور واقعي وعملي، وحتى أخلاقي، لكن المرعب في الأمر أن يتّصف شخصٌ طبيعيٌّ في ظروفٍ غير كارثية بتلك القوى العدوانية السوداء الكامنة، والرغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، لمجرد أنهم حققوا نجاحاً ما. من النادر أن يعترف أحدنا بهزيمته طوعياً في منافسةٍ ما، فيختلق الذرائع التي تؤكّد تعرضه للظلم، ويستنزف كل طاقاته في مشاعر سلبية، من شأنها أن تحيله إلى كائنٍ بغيض، ينفر منه الآخرون، وتتبدّى لديه مشاعر الشماتة، وهي مشاعر غبيّة، تفترض أن الشامت شخصٌ محصّنٌ من كل سوء من حيث المبدأ، وكأن الدنيا ليست دوارة! والشماتة، كما يعرّفها علم النفس، هي طاقة سلبية تعبر عن عجز نفسي خطير، تتجه نحو شخصٍ تعثر في حياته بعد نجاح، أو أصيب بمصابٍ أليم، فتعتري الشامت سعادةٌ كبرى، لا يخجل من التعبير عنها، ومشاعر كهذه تعبّر عن روحٍ ثأرية انتقامية، وعن قصورٍ نفسيٍّ، وإخفاق أخلاقي، وفشل إنساني.
الشامتون كثر، وهم مجرد نماذج شوهاء أقفرت أرواحها من معاني الحب والخير، واستمرأت سواد الكراهية، فكفت عن الإشراق والسمو الذي يرتقي بالنفس إلى مرحلةٍ من السعادة لن يدركوها أبداً.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.