إحياء لحظة الشرف

02 يناير 2015
نزار صابور/ سوريا
+ الخط -

في الظاهر يدّعي الراوي في رواية الإسباني خافيير سيركاس "جنود سالامينا"(ترجمة ندى شديد وأدونيس سالم)، أنه أراد أن يتابع قصة إعدام غريبة تعرّض لها أحد قادة الكتائب الإسبانية في نهاية الحرب الأهلية بين الجمهوريين من جهة والقوميين الذين انتهوا إلى الانتصار على خصومهم، وتسليم السلطة للجنرال فرانكو.

كان رافاييل سانشيز مازاس، وهو أحد مؤسسي حزب الكتائب الإسبانية، الذي قاد الحركة القومية ضدّ الجمهوريين، قد اعتقل في برشلونة من قبل الجمهوريين، وسيق إلى دير كوييل حيث أُعدِم مع عدد كبير من أنصار الكتائب.

كان إعداماً فوضوياً، كما يقول الراوي، بسبب تقدّم القوميين، وتراجع فلول الجمهوريين. اخترقت الرصاصات قماشة سروال مازاس دون أن تمس جسده، فاستغل بدوره البلبلة آنذاك ليركض ويختبئ في الغابة. تبدأ القصة عقب هذا، فهناك في الغابة حيث قبع مختبئاً في حفرة، وجد نفسه فجأة أمام جندي من متطوعي الميليشيا الذين بدأوا يبحثون عنه، تلك اللحظة صاح أحدهم: هل هو هناك؟ ظل المقاتل ينظر إليه عدة ثوان ثم صاح: "لا أحد هنا"، ثم استدار على عقبيه وانصرف.

هذه هي اللحظة التي يكمن فيها مغزى رواية سيركاس بالكامل، وعلى الرغم من أن السرد التالي "يتجاهل" أمر ذلك المقاتل، فإن ظلّه يهيمن على وجدان القارئ وضميره معززاً بالعديد من الأسئلة الوجودية التي تعيد إحياء تلك اللحظة. ما الذي فكّر فيه المقاتل؟ ماذا قالت عينا مازاس وبمَ أجابته عينا الجندي؟ هل تعلّق مصير الرجل بخطاب العينين أم بخطاب أكثر عمقاً يزهو بقوة الوجدان الإنساني المترفّع القادر على تجاوز خزي القتل؟ على أن سؤالاً مضمراً آخر يتسلّل إلى فحوى الرواية، يستفسر عن مرجعية الثورات وحروب الحرية. من أين تستمد الثورة نبلها وإنسانيتها؟ من نبل القضية التي يقاتل البشر من أجلها؟ أم من الشرف والنبل الذي يمتلكونه من أجل الدفاع عن قضية الحرية أو الكرامة أو أي قضية أخرى نبيلة؟ يعيد ميرايس(وهذا هو اسم ذلك المقاتل الذي يعثر عليه الراوي أخيراً)، ألق الروح الإنسانية التي تمنح الحضارة، أي حضارة بالطبع، معناها الإنساني.

الأكثر نبلاً أنه حين يلتقي به الراوي، ويعلم أنه شارك بعد نهاية الحرب الأهلية الإسبانية في معظم حروب الحرية في القرن العشرين، يسأله "كنت أنت، أليس كذلك؟"، (أي ذلك المقاتل الذي أنقذ حياة عدوه)، يبتسم ابتسامة عريضة متوددة، تشفّ قليلاً عن صفين من الأسنان السيئة الحال، ويجيب: "كلا".

يفكر الراوي في طريق عودته، ماذا يمكن أن يفعل تجاه رجل كانت لديه الشجاعة وغريزة الفضيلة كي لا يخطئ في اللحظة التي كان مهمّاً فيها حقاً ألا يخطئ؟

وفيما يصبح مازاس وزيراً في إحدى حكومات فرانكو، ثم يستقيل ويتفرّغ للكتابة، يلجأ ميرايس إلى مأوى للعجزة، حين لم يعد لديه مَن يعينه، غير أنه، كما يقول الراوي "لو لم يوجد قط، في أي مكان من أي مدينة من أي وطن قذر، شارع يحمل اسم ميرايس، فهذا الرجل، وما دمت أخبر قصته، سيبقى بطريقة ما حياً".

دلالات
المساهمون