الحيرة الشديدة... هي أقوى شعور خلّفته الحروب في ذهن إبراهيم البطوط. فقد صوّر ثلاث عشرة حرباً بقيت ذكرياتها حية نابضةً تنافس الصور التي التقطتها عدساته، قوّةً وبقاء. ومع تأمل الصور والذكريات بعيداً عن تحليلات السياسة، يبدو له أن خيطاً ما رفيعاً يربط بين الحروب جميعاً. قد يبدو مشواره الطويل عشوائياً لمَن يتأمّله عن بُعد.
وربّما حمل قدراً كبيراً من العشوائيّة التي تفرضها طبيعة الحرب، عندما يشدّ المراسلون والمصورون الرحال والعدسات وبعض الأوراق والأقلام، وربما سترة واقية ويذهبون إلى جبهات القتال.
لكن البطوط، حينما ينظر إلى الأمور من منطلق أنّه مخرج أفلام سينمائية، يجد أنّ الحرب لم تكُن عشوائيّة. حرب العراق وإيران، التي كان البطوط من الناجين منها بأعجوبة، كانت عبثيةً جداً. كان يلتقط الصور ويسجل بكاميرا الفيديو وهو لا يكُفّ عن التساؤل بينه وبين نفسه: "ما الذي يجعلهم يحاربون بعضهم بعضاً حقاً؟ ما الذي يستحق كل هذا الموت؟!". ومن سؤال حرب العراق وإيران، إلى سؤال أكبر في حرب بيروت، يبدو له كلام الفصائل كلها معقولاً، ويبدو له الجميع على حقّ بقدر ما، فتزداد الحيرة. ثم تشتعل حرب الخليج الأولى، لتتعمّق الحيرة وتصطبغ بالمرارة. فقبل تلك الحرب مباشرةً، كان البطوط يُغطي مؤتمر القمّة العربيّة، وكان الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، يسير إلى جوار أمير الكويت، ولا تزال الصور موجودة في أرشيفه. وبعدها بشهر واحد، سجلت الكاميرا نفسها غزو العراق للكويت، ليجد بعدها 35 جيشاً على استعداد للحرب. في يوم 22 فبراير/ شباط، أي عندما انتهت الحرب الجوية، حاول البطوط دخول الكويت متخفّياً، وكان ممنوعاً على الصحافيين دخول البلاد. وفي ظلّ وجود كل هذه القوات، كان الحلّ في الزي المموّه وحلاقة الشعر ورش السيارة لتصبح مموّهة.
استطاع البطوط وفريقه المرور عبر عدة خطوط. لكن المشهد الذي أربكه للغاية ولا يفارق ذاكرته، منذ التقطته عدساته عند بداية دخوله إلى الكويت، كانت للقوات المصرية، والأكثر إرباكاً بينها كان مشهد القوات المصرية وقد أسرت جنوداً عراقيين. وبعيداً عن سؤال مَن المخطئ ومَن كان سبب الحرب، وغيرها من اجتهادات سياسية وعسكرية، هزّه مشهد جنود عراقيين/ عرب يجلسون القرفصاء على الأرض وحولهم جنود مصريون/ عرب يوجّهون أسلحتهم نحوهم، ليدرك فوراً أن شرخاً عميقاً لا التئام له قد بدأ يجد طريقه إلى خريطة الدول العربيّة. لم يكن البطوط يُركّز في تصوير المعارك فحسب، بل كان يهتمّ بتوثيق ما يحدث للبشر أثناء الحرب. وقد عاد من آخر الحروب التي غطاها، أي الحرب الأميركية على العراق، في إبريل/ نيسان من العام 2003، بقصص عديدة. في الرابع من إبريل/ نيسان 2003، وقبل سقوط بغداد بخمسة أيام تقريباً، دخل فريق البطوط الصحافي منطقة "أم قصر" على حدود الكويت قبل البصرة، ليسجل مشهداً لا ينساه على الطريق الدولي السريع حيث القوات الأميركية تتحرك بكثافة، دبابات وحافلات جنود وهليكوبتر وطائرات حربية تُحلّق فوق الطريق لتدخل إلى العراق، وفجأةً تظهر سيارة نقل قادمة من الكويت تحمل مساعدات غذائيّة، تتوقّف وتبدأ في توزيع الأغذية. تكاثر عليها الناس، وكادوا يقتلون بعضهم بعضاً في محاولة الوصول إليها كي يحصل واحدهم على علبة طعام. وفي وسط هذا المشهد، يقف رجل خمسيني عن بُعد لا يتحرّك، يتأمل فقط بعيون دامعة. ولمّا اقترب منه وسأله ما به، رد بأسى: "أهذا ما انتهينا إليه؟... أمعاءٌ تتقاتل على لقمة تسدّ الجوع!". ثم صارحه بالقول: "حتى لو سقط صدام غداً ورأيته ذبيحاً، سأظلّ أخاف منه ما بقي لي من عمر". كان واضحاً أنّ هذا الرجل كسرت روحه بلا أمل في شفاء، ليُضاف إلى الأسئلة المربكة سؤال آخر موجع: "كم من الأرواح مكسورة من طول القهر هنا وهناك؟ هذا الانكسار هو ما كانت نتيجته أن يتم الغزو الأميركي بتلك الطريقة وأن تسقط بغداد في ثلاثة أيام". ومن هذا الانكسار، يروي إبراهيم لقطات من ذاكرته: في منطقة يطلق عليها اسم "أور" بالعراق، (وتقول الحكايات إنها المنطقة التي نشأ فيها النبي إبراهيم)، مبنى أثري قديم، تمرّ أمامه الدبابات الأميركية. وفي مواجهته، مدرسة سورها مزدان بمقولات الرئيس صدام حسين مكتوبة بصيغة وخطوط وكأنها أحاديث نبي. وفجأةً، يسقط هذا الرمز الذي تعلّم تلامذة المدرسة أن يُقدّسوه، لينتهي المشهد بهؤلاء الصغار يجرون مهلّلين خلف الدبابات الأميركية ويُلقون عليها الورود ابتهاجاً بالخلاص! مدينة الناصرة، في الجنوب: شارع مزدحم بسيارات وسط الكثير من الدبابات وسيارات الجنود الأميركيين. وفي وسط الميدان، يقف رجل عراقي، يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً رمادياً، في نشاط وحماس ينظّم المرور. لا ينسى البطوط دموعه لمرأى هذا الرجل الذي شعر أنّ هذا هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يفعله وأن يشعره بأنه في بلده، له سيطرة على الأمور بشكل ما. منذ الثمانينيات وابراهيم البطوط يذهب إلى العراق من حين لآخر. كان يجده بلداً جميلاً لكنه موحش لسبب لا يدركه. فقط أثناء الحرب الأميركية على العراق في 2003، أدرك السبب، أو هكذا اعتقد.
وبعد مراجعة لأرشيف ذكرياته، لاحظ أنّه كان بلداً تخلو شوارعه من مشاهد الحب البسيطة. إذ لم يُسجّل مرة لقطة لشاب وفتاة يمسكان بأيدي بعضهما بعضاً أو يتنزهان في حديقة، لأن الشعب، ولسنوات طويلة، كان في حالة حرب مستمرة منذ أوائل الثمانينيات، وفي الحرب تجف المشاعر ولا يصبح هناك مجال للحب وتصير المدن موحشة. بعد غزو العراق، شارك صحافيون بتصوير الكشف عن المقابر الجماعية في منطقة الحلة، حيث دفن صدام ضحاياه في مذابح عام 1991، وتوافد العراقيون للبحث عن رفات ذويهم التي لم يعرفوا لها طريقاً منذ المذبحة. وتركز كاميرا البطوط على سيدة أربعينية جاءت للبحث عن ابنها، وراحت تحكي للموظف الذي يحمل السجلات عن أوصافه وماذا كان يرتدي عندما اختفى، والورقة التي في جيبه والمكتوب فيها. كانت حريصة على أن تتحدث بوضوح من دون إظهار أية مشاعر، فقط، سرد للمحفور في ذاكرتها عن الابن المفقود. اقتادها الموظف إلى كفن أبيض ملفوف، فيه بعض العظام، وعندما فتح لها الكفن تعرّفت إلى ملابس ابنها وأشيائه الملفوفة مع رفاته... الغريب أنّ الكاميرا سجَّلت ملامح السعادة على وجه الأم، التي كانت سعيدةً بالعثور على جثة ابنها بعد 11 عاماً من فقدانه. ربما بكت بعدما حملتها إلى المقبرة... لكنها عندما وجدت رفاته كانت في حالة من الابتهاج والرضا لأنها وجدته ولو كومةً من العظام.
بعد تلك التجربة الطويلة، لا يبدو لإبراهيم البطوط أن هناك فرقاً بين حرب وأخرى. ففي النهاية، ينتهي به الأمر إلى وجوده مع أناس يصارعون الموت فيهزمونه يوماً ويهزمهم أياماً. وتُسجّل الكاميرا وتشهد ألا فرق بين أناس وأناس آخرين، فالدم له اللون نفسه، وللحزن النظرات والملامح نفسها، وللدموع الحرقة وطعم الملوحة المشتركة بين كل البشر.
وربّما حمل قدراً كبيراً من العشوائيّة التي تفرضها طبيعة الحرب، عندما يشدّ المراسلون والمصورون الرحال والعدسات وبعض الأوراق والأقلام، وربما سترة واقية ويذهبون إلى جبهات القتال.
لكن البطوط، حينما ينظر إلى الأمور من منطلق أنّه مخرج أفلام سينمائية، يجد أنّ الحرب لم تكُن عشوائيّة. حرب العراق وإيران، التي كان البطوط من الناجين منها بأعجوبة، كانت عبثيةً جداً. كان يلتقط الصور ويسجل بكاميرا الفيديو وهو لا يكُفّ عن التساؤل بينه وبين نفسه: "ما الذي يجعلهم يحاربون بعضهم بعضاً حقاً؟ ما الذي يستحق كل هذا الموت؟!". ومن سؤال حرب العراق وإيران، إلى سؤال أكبر في حرب بيروت، يبدو له كلام الفصائل كلها معقولاً، ويبدو له الجميع على حقّ بقدر ما، فتزداد الحيرة. ثم تشتعل حرب الخليج الأولى، لتتعمّق الحيرة وتصطبغ بالمرارة. فقبل تلك الحرب مباشرةً، كان البطوط يُغطي مؤتمر القمّة العربيّة، وكان الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، يسير إلى جوار أمير الكويت، ولا تزال الصور موجودة في أرشيفه. وبعدها بشهر واحد، سجلت الكاميرا نفسها غزو العراق للكويت، ليجد بعدها 35 جيشاً على استعداد للحرب. في يوم 22 فبراير/ شباط، أي عندما انتهت الحرب الجوية، حاول البطوط دخول الكويت متخفّياً، وكان ممنوعاً على الصحافيين دخول البلاد. وفي ظلّ وجود كل هذه القوات، كان الحلّ في الزي المموّه وحلاقة الشعر ورش السيارة لتصبح مموّهة.
استطاع البطوط وفريقه المرور عبر عدة خطوط. لكن المشهد الذي أربكه للغاية ولا يفارق ذاكرته، منذ التقطته عدساته عند بداية دخوله إلى الكويت، كانت للقوات المصرية، والأكثر إرباكاً بينها كان مشهد القوات المصرية وقد أسرت جنوداً عراقيين. وبعيداً عن سؤال مَن المخطئ ومَن كان سبب الحرب، وغيرها من اجتهادات سياسية وعسكرية، هزّه مشهد جنود عراقيين/ عرب يجلسون القرفصاء على الأرض وحولهم جنود مصريون/ عرب يوجّهون أسلحتهم نحوهم، ليدرك فوراً أن شرخاً عميقاً لا التئام له قد بدأ يجد طريقه إلى خريطة الدول العربيّة. لم يكن البطوط يُركّز في تصوير المعارك فحسب، بل كان يهتمّ بتوثيق ما يحدث للبشر أثناء الحرب. وقد عاد من آخر الحروب التي غطاها، أي الحرب الأميركية على العراق، في إبريل/ نيسان من العام 2003، بقصص عديدة. في الرابع من إبريل/ نيسان 2003، وقبل سقوط بغداد بخمسة أيام تقريباً، دخل فريق البطوط الصحافي منطقة "أم قصر" على حدود الكويت قبل البصرة، ليسجل مشهداً لا ينساه على الطريق الدولي السريع حيث القوات الأميركية تتحرك بكثافة، دبابات وحافلات جنود وهليكوبتر وطائرات حربية تُحلّق فوق الطريق لتدخل إلى العراق، وفجأةً تظهر سيارة نقل قادمة من الكويت تحمل مساعدات غذائيّة، تتوقّف وتبدأ في توزيع الأغذية. تكاثر عليها الناس، وكادوا يقتلون بعضهم بعضاً في محاولة الوصول إليها كي يحصل واحدهم على علبة طعام. وفي وسط هذا المشهد، يقف رجل خمسيني عن بُعد لا يتحرّك، يتأمل فقط بعيون دامعة. ولمّا اقترب منه وسأله ما به، رد بأسى: "أهذا ما انتهينا إليه؟... أمعاءٌ تتقاتل على لقمة تسدّ الجوع!". ثم صارحه بالقول: "حتى لو سقط صدام غداً ورأيته ذبيحاً، سأظلّ أخاف منه ما بقي لي من عمر". كان واضحاً أنّ هذا الرجل كسرت روحه بلا أمل في شفاء، ليُضاف إلى الأسئلة المربكة سؤال آخر موجع: "كم من الأرواح مكسورة من طول القهر هنا وهناك؟ هذا الانكسار هو ما كانت نتيجته أن يتم الغزو الأميركي بتلك الطريقة وأن تسقط بغداد في ثلاثة أيام". ومن هذا الانكسار، يروي إبراهيم لقطات من ذاكرته: في منطقة يطلق عليها اسم "أور" بالعراق، (وتقول الحكايات إنها المنطقة التي نشأ فيها النبي إبراهيم)، مبنى أثري قديم، تمرّ أمامه الدبابات الأميركية. وفي مواجهته، مدرسة سورها مزدان بمقولات الرئيس صدام حسين مكتوبة بصيغة وخطوط وكأنها أحاديث نبي. وفجأةً، يسقط هذا الرمز الذي تعلّم تلامذة المدرسة أن يُقدّسوه، لينتهي المشهد بهؤلاء الصغار يجرون مهلّلين خلف الدبابات الأميركية ويُلقون عليها الورود ابتهاجاً بالخلاص! مدينة الناصرة، في الجنوب: شارع مزدحم بسيارات وسط الكثير من الدبابات وسيارات الجنود الأميركيين. وفي وسط الميدان، يقف رجل عراقي، يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً رمادياً، في نشاط وحماس ينظّم المرور. لا ينسى البطوط دموعه لمرأى هذا الرجل الذي شعر أنّ هذا هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يفعله وأن يشعره بأنه في بلده، له سيطرة على الأمور بشكل ما. منذ الثمانينيات وابراهيم البطوط يذهب إلى العراق من حين لآخر. كان يجده بلداً جميلاً لكنه موحش لسبب لا يدركه. فقط أثناء الحرب الأميركية على العراق في 2003، أدرك السبب، أو هكذا اعتقد.
وبعد مراجعة لأرشيف ذكرياته، لاحظ أنّه كان بلداً تخلو شوارعه من مشاهد الحب البسيطة. إذ لم يُسجّل مرة لقطة لشاب وفتاة يمسكان بأيدي بعضهما بعضاً أو يتنزهان في حديقة، لأن الشعب، ولسنوات طويلة، كان في حالة حرب مستمرة منذ أوائل الثمانينيات، وفي الحرب تجف المشاعر ولا يصبح هناك مجال للحب وتصير المدن موحشة. بعد غزو العراق، شارك صحافيون بتصوير الكشف عن المقابر الجماعية في منطقة الحلة، حيث دفن صدام ضحاياه في مذابح عام 1991، وتوافد العراقيون للبحث عن رفات ذويهم التي لم يعرفوا لها طريقاً منذ المذبحة. وتركز كاميرا البطوط على سيدة أربعينية جاءت للبحث عن ابنها، وراحت تحكي للموظف الذي يحمل السجلات عن أوصافه وماذا كان يرتدي عندما اختفى، والورقة التي في جيبه والمكتوب فيها. كانت حريصة على أن تتحدث بوضوح من دون إظهار أية مشاعر، فقط، سرد للمحفور في ذاكرتها عن الابن المفقود. اقتادها الموظف إلى كفن أبيض ملفوف، فيه بعض العظام، وعندما فتح لها الكفن تعرّفت إلى ملابس ابنها وأشيائه الملفوفة مع رفاته... الغريب أنّ الكاميرا سجَّلت ملامح السعادة على وجه الأم، التي كانت سعيدةً بالعثور على جثة ابنها بعد 11 عاماً من فقدانه. ربما بكت بعدما حملتها إلى المقبرة... لكنها عندما وجدت رفاته كانت في حالة من الابتهاج والرضا لأنها وجدته ولو كومةً من العظام.
بعد تلك التجربة الطويلة، لا يبدو لإبراهيم البطوط أن هناك فرقاً بين حرب وأخرى. ففي النهاية، ينتهي به الأمر إلى وجوده مع أناس يصارعون الموت فيهزمونه يوماً ويهزمهم أياماً. وتُسجّل الكاميرا وتشهد ألا فرق بين أناس وأناس آخرين، فالدم له اللون نفسه، وللحزن النظرات والملامح نفسها، وللدموع الحرقة وطعم الملوحة المشتركة بين كل البشر.