أين يختفي العلماء الجدد؟

18 يناير 2018
+ الخط -
ساقني القدر أن أجلس في المقعد الخلفي من سيارة الأجرة، بجوار طالبين جامعيين، يتناقشان بشأن ما سيختبرا به بمجرد وصولهما إلى الجامعة.
يقول أحدهما للآخر: لا أتوقع أن يكون هناك سؤال في الفصل الخامس من الكتاب، ليرد الآخر: لو جاء حقاً سؤال من الفصل الخامس، فحتماً لن أجيب عليه، لأنني لم أقم بمراجعته وحفظ ما ورد فيه. وبناء عليه، يتوقعان أن يرسبا في الاختبار، إذا ما تركزت الأسئلة في فصلين أو ثلاثة من أصل خمسة فصول.
واقع هذين الطالبين، أعاد إلى ذاكرتي الفيلم الهندي "البلهاء الثلاثة"، الذي تخلى أحد أبطاله عن حفظ ما ورد بين الأسطر في إحدى المواد الدراسية في كلية الهندسة الملكية، علماً أنه كان قادراً على فهمها بدقة، على عكس صديقه الذي يعرف في الوسط العربي بـ"الدحيح"، وكان يتفانى في حفظ الأجوبة النموذجية، مثلما وردت حرفياً بين دفتي الكتاب.
الأول صار مخترعا، أما الـ"الدحيح" فقد أصبح أكاديمياً. لسنا، نحن المجتمع العربي، في غنى عن الأثنين، سواء العبقري أو المعلم، لكن يمكن القول إن تخلّي العبقري عن المسلمات العلمية التي يحاول بعضهم اعتبارها "ديناً" غير قابل للتعديل أو التطوير، التعمق في الأشياء والتغلغل في عمق التجربة، حتماً سيقود إلى جيل أكثر إبداعا على المستوى العلمي.
بيد أن الدحيح لن يصنع في العمل الأكاديمي أكثر من أن يعيد إنتاج ذاته على هيئة شخصيات متعدّدة الأوجه، أو بمعنى أصح: استنساخ الفشل.
ما أود قوله، بطريقة آخرى: يقودنا اعتمادنا على النظريات، في غالب الأحيان، إلى تحرير شهاداتٍ يمكن أن تصبح شيئاً من ديكور الحائط فيما بعد. بينما تجريد العقول من المسلمات والتخلي عن النظريات التي مضى عليها عقود، وإطلاق يد الطلبة نحو التجربة يقودنا أحياناً إلى صناعة علماء جدد.
هذا يعني ألا تعتمد على قول أحد، عليك أن تقوم بالتجربة. فالمعرفة العلمية مناطة بنمط التفكير، وقدرتك على تحليل الأشياء وتفسيرها وصولاً إلى الاستنتاجات.
قس ما أقوله على حجم الخريجين على المستوى العربي، وقطاع غزة خصوصا، ستجد أن هناك مئات الآلاف من الطلبة استطاعوا الحصول على شهادات علمية في مختلف التخصصات. لكن كم من هؤلاء الخريجين قد انضم إلى قائمة المفكرين والعلماء والمطورين؟ وحتى إن تحقّق ذلك، فهو لن يضع علمه بين يديك كبلد، وإنما سيتماهى مع هجرة الأدمغة.
بالمناسبة، تظهر دراسات قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونيسكو والبنك الدولي أن العالم العربي يساهم في ثلث هِجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحِدة وكندا. وذكرت تقارير أن 54% من الطلاب العرب، الذين يدرسون في الخارج، لا يعودون إلى بلدانهم.
فما بالكم ببلد محتل وواقع تحت حصار مثل غزة، ترى هل ظل هناك أثرا لمفكر أو مبدع؟ المسألة فقط مناطة بإدارة التعليم في بلداننا، فأنا لا أؤمن بالمؤسسة التعليمية التي لا تزال تعتقد أن زيارة مقبرة الشهداء من أنواع الترفيه، وجزء من برامج الرحلات المدرسية.
وعلى الرغم من ذلك، ليست المؤسسة التعليمية فقط من يتحمل المسؤولية في الحفاظ على نمطية التعليم، والحد أحيانا من صناعة المفكرين والمبدعين، بالاعتماد على الحفظ أكثر من الفهم، الأسرة أيضاً قد تكون بمثابة مضاد للتطور أحياناً من خلال عجزها عن اكتشاف أطفالها باكراً، ومستوى ذكائهم العقلي، أو على الأقل إتاحة الفرصة أمامهم لتحقيق ذواتهم.
مثالا على ذلك: قبل نحو خمس سنوات، ساعدت جاري في توفير مدرس خصوصي لطفله الذي تعرّض لوعكة صحية، وتغيب فترة ثلاثة أسابيع عن المدرسة. قال إن طفله بحاجة إلى من يعينه على دراسة كل ما فاته من المقرر.
بعد فترة قصيرة، أخبرني المدرس الخصوصي أن علي نصح والد الطفل بضرورة الاهتمام به، لأنه مستقبله سيكون علمياً باهراً. وقال لي حرفياً: هذا طفل معجزة، لا يجب أن يعيش في غزة. وحينما أخبرت والده بما قاله المدرس، تهكم ضاحكاً وقال: "هذا طفل أبله". هذا الأبله كما يصفه أبوه الآن أصبح خارج أسوار المدرسة، ويعمل في إحدى الحرف، بزعم أنه لا يحب التعليم!
لازلت أتساءل: هل هذا الطفل فعلاً لا يحب التعليم، أم لا تروقه نمطية التعليم في حفظ جميع فصول الكتاب عن ظهر قلب، من دون فهم سطر واحد؟
avata
avata
فادي الحسني (فلسطين)
فادي الحسني (فلسطين)