20 نوفمبر 2024
أين تذهب عائدات الحج؟
أدرك حساسية الموضوع، وصعوبة تناوله، لتداخل الديني والمقدس والسياسي والمذهبي فيه. إنه موضوع إدارة الحج. صعوبة طرْق هذا الموضوع وحساسيته أيضاً يكتسبها من طبيعته الدينية أولاً، على الرغم من أن الموضوع هنا لا يهم جانب الشعائر الدينية، لأن الحج يبقى فريضةً إسلامية، بل وأحد أكبر الشعائر الإسلامية التي يكتمل بها إيمان المؤمن لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وما يزيد تعقيد طرح الموضوع طبيعة الخلاف المذهبي القائم اليوم بين السنّة والشيعة الذين يعتبرون أنفسهم من آل البيت، حول من يحق له من بينهم الفضل في إدارة أقدس مكان عند المسلمين. وثالثاً، يجد كل من يريد الخوض في هذا الموضوع نفسه أمام تقاطبٍ سياسي حاد بين السعودية وإيران التي تستعمل هذه الورقة كلما احتدّ صراعها السياسي مع السعودية، غريمتها التقليدية ومنافستها على زعامة مسلمي العالم.
في البداية يجب الإقرار بأن الهدف هنا ليس هو إذكاء هذا التقاطب السياسي والإيديولوجي، وأبعد من ذلك ليست الغاية من ورائه الانتصار لجهة ضد أخرى، وإنما طرح الموضوع من زاوية تاريخية موضوعية، وأيضاً من زاوية اقتصادية محضة لا تمس بالسيادة الترابية للعربية السعودية على جزء من أراضيها.
وحتى بالنسبة لإدارة الحج، فلها شقّان، ديني يعتبر "مقدساً"، وليس موضوع نقاشه هنا، وتدبيري يتعلق بالتنظيم الإداري والمالي، وبالتصرف في عائدات الحج حتى يستفيد منها فقراء المسلمين، إذا ما اعتبرنا الشعائر في مكة والمدينة، بوصفهما مناطق مقدسة عند المسلمين، وتعتبران من أكبر الأوقاف وأقدمها في الإسلام.
فيما يتعلق بالجانب "المقدس" في تدبير إدارة الحج، فهذا موضوع لا نقاش حوله، لأنه يبقى
تكليفاً أكثر مما هو تشريفٌ يقع على عاتق القائمين على "خدمة" المسلمين. ومن هنا كان لقب ملوك السعودية "خادم الحرمين". وهو لقب كان أول من حمله صلاح الدين الأيوبي، ثم السلطان العثماني سليم الأول، قبل أن يصبح ملازماً للملوك السعوديين. والمقصود بهذا اللقب ليس فقط التواضع، وإنما ما هو أبعد من ذلك، أي أن مكة كأقدس بقعةٍ على الأرض بالنسبة للمسلمين لا يمكن أن يكون فيها حاكم آخر سوى الله، أما من يتولون شؤون الناس في هذه البقعة فهم إنما وُجدوا لخدمة زوّارها من الحجاج.
ويُحكى أن السلطان العثماني، سليم الأول، اختار هذا اللقب لنفسه، عندما بلغه أن إمام مسجد دمشق كان يدعو له بلقب "حاكم الحرمين". ومهما تختلف الروايات وتتعدّد في أصل هذا اللقب وأسبابه فالغاية واحدة، وهي أن الحكم في مكة لله وحده، ومن أرد أن يتميز على باقي الناس، فما عليه سوى أن يتميز بخدمة "ضيوف الرحمن"، كما يُسمّي السعوديون حجاج مكة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وتاريخياً، وحتى قبل مجيء الإسلام، وكان حجاج ذلك الزمان يفدون على مكة، كان من يتولى الإشراف على الحج وتدبير شؤونه جزءاً من السكان الأصليين للمدينة، كانوا يسمون "الحُمس"، ويقومون مقام "سدنة" المعابد في ذلك الزمان الغابر، أي خدّام المعبد. كما أن مكة تاريخياً، وقبل الإسلام، لم تخضع لأي من الممالك التي كانت تحكم شبه جزيرة العرب آنذاك، كما لم تخضع لسلطة أو وصاية أيٍّ من امبراطوريات العهد القديم، على الرغم من أهميتها آنذاك، ملتقى تجارياً مهماً، وحاضرة دينية كانت تُشد إليها الرحال من كل حدب وصوب. وحتى في عهود النبي محمد، والخلفاء الذين تولوا الخلافة بعده، ومن بعدهم الملوك في عهود كل الدول التي تعاقبت على حكم المسلمين، لم يشهد التاريخ أن تحولت مكة إلى عاصمةٍ لملك أحدهم، على الرغم من قداستها عند المسلمين، ولعل الحكمة من ذلك هي التمييز بين تدبير الشأن العام المدني الذي يبقى مجاله السياسة وما تفرضه من اختلاف في الرؤى والتوجهات والاختيارات، وتدبير شأن ديني مقدس، لا مجال فيه للمنافسة، وإنما للتعاون على البر والتقوى، كما دعا إلى ذلك القرآن الكريم. ومن باب هذه الدعوة القرآنية للتعاون على البر والتقوى، يطرح هذا الموضوع، هنا، للنقاش بدون خلفيات سياسية، وبعيداً عن الخلافات المذهبية والإيديولوجية.
لا يتعلق الأمر بتحويل مكة والمدينة إلى "فاتيكان" للمسلمين، فليس هذا هو موضوع النقاش، فالإسلام ليس دين كهنوت أو إيكليروس، أي طبقة دينية تتكلم باسم الدين، وتحوله إلى وسيلة لبلوغ السلطة والنفوذ والمال. فكرة هذه المقالة بعيدة عن الدعوة الإيرانية إلى تأسيس هيئة إسلامية عليا للإشراف على الحج، وبعيدة عن أصوات تركية تحنّ إلى عهد إشراف "الأستانة" على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة.
تقوم الفكرة هنا على السعي إلى فتح النقاش للبحث عن كيفية استفادة فقراء المسلمين من
مداخيل الحج التي تنمو سنة بعد أخرى، انطلاقاً من اعتبارات اقتصادية محضة، تتمثل في إعادة بعض أموال المسلمين إلى بلدانهم الأصلية، حتى يستفيد منها فقراء هذه البلدان، عبر مشاريع خيرية ترعاها مؤسسة مستقلة، تتولى عملية التدبير المالي لعائدات الحج. فأغلب الحجاج من فقراء المسلمين، ومعظمهم يدخرون لسنوات من أجل أداء الفريضة، فلماذا لا تقوم الجهة التي تشرف على التدبير المالي لعائدات الحج على إرجاع جزء من هذه الأموال إلى أصحابها الفقراء، بطريقة غير مباشرة عن طريق مشاريع خيرية.
الأمر هنا لا يتعلق بعملية "ماركتينغ" كالتي تقوم بها شركات كبرى للحفاظ على أسواقها في دول فقيرة، وتلميع صورتها لدى مستهلكيها، فهو يدخل في روح فكرة الحج الدينية التي تقوم على التعارف والتقارب والتوادد والتعاون بين الشعوب.
وللتذكير فقط، تقدّر عائدات السعودية السنوية من العمرة والحج بمليارات الدولارات، فقد فاقت عام 2014 سقف 16.5 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم مع نهاية عام 2020، عندما تنتهي أشغال توسيع الحرم المكي، وأيضاً بسبب ارتفاع عدد المسلمين في العالم. وكل إيرادات الحج والعمرة تذهب اليوم إلى خزينة الدولة السعودية التي تبرّر ذلك بإنفاقها على توسيع الحرم وتطوير الخدمات وأعمال الصيانة والأمن والإدارة.. على الرغم من أن المسؤولين السعوديين يقولون دائماً إن ما يحصل هو العكس، أي أن الدولة هي التي تصرف على الحج، وإذا كان الأمر كذلك، فأين تذهب عائدات الحج والعمرة؟ أليس من حق فقراء المسلمين الاستفادة منها؟
أعرف أن الأسئلة مستفزة، والفكرة مثيرة للجدل وللحساسيات أيضاً. لكن، إذا كنا نؤمن بفضيلة النقاش، فلماذا لا نطرحها بصوت مرتفع، حتى نحرّرها من خلافات السياسيين، ومن صراعات المذهبيين.
وما يزيد تعقيد طرح الموضوع طبيعة الخلاف المذهبي القائم اليوم بين السنّة والشيعة الذين يعتبرون أنفسهم من آل البيت، حول من يحق له من بينهم الفضل في إدارة أقدس مكان عند المسلمين. وثالثاً، يجد كل من يريد الخوض في هذا الموضوع نفسه أمام تقاطبٍ سياسي حاد بين السعودية وإيران التي تستعمل هذه الورقة كلما احتدّ صراعها السياسي مع السعودية، غريمتها التقليدية ومنافستها على زعامة مسلمي العالم.
في البداية يجب الإقرار بأن الهدف هنا ليس هو إذكاء هذا التقاطب السياسي والإيديولوجي، وأبعد من ذلك ليست الغاية من ورائه الانتصار لجهة ضد أخرى، وإنما طرح الموضوع من زاوية تاريخية موضوعية، وأيضاً من زاوية اقتصادية محضة لا تمس بالسيادة الترابية للعربية السعودية على جزء من أراضيها.
وحتى بالنسبة لإدارة الحج، فلها شقّان، ديني يعتبر "مقدساً"، وليس موضوع نقاشه هنا، وتدبيري يتعلق بالتنظيم الإداري والمالي، وبالتصرف في عائدات الحج حتى يستفيد منها فقراء المسلمين، إذا ما اعتبرنا الشعائر في مكة والمدينة، بوصفهما مناطق مقدسة عند المسلمين، وتعتبران من أكبر الأوقاف وأقدمها في الإسلام.
فيما يتعلق بالجانب "المقدس" في تدبير إدارة الحج، فهذا موضوع لا نقاش حوله، لأنه يبقى
ويُحكى أن السلطان العثماني، سليم الأول، اختار هذا اللقب لنفسه، عندما بلغه أن إمام مسجد دمشق كان يدعو له بلقب "حاكم الحرمين". ومهما تختلف الروايات وتتعدّد في أصل هذا اللقب وأسبابه فالغاية واحدة، وهي أن الحكم في مكة لله وحده، ومن أرد أن يتميز على باقي الناس، فما عليه سوى أن يتميز بخدمة "ضيوف الرحمن"، كما يُسمّي السعوديون حجاج مكة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وتاريخياً، وحتى قبل مجيء الإسلام، وكان حجاج ذلك الزمان يفدون على مكة، كان من يتولى الإشراف على الحج وتدبير شؤونه جزءاً من السكان الأصليين للمدينة، كانوا يسمون "الحُمس"، ويقومون مقام "سدنة" المعابد في ذلك الزمان الغابر، أي خدّام المعبد. كما أن مكة تاريخياً، وقبل الإسلام، لم تخضع لأي من الممالك التي كانت تحكم شبه جزيرة العرب آنذاك، كما لم تخضع لسلطة أو وصاية أيٍّ من امبراطوريات العهد القديم، على الرغم من أهميتها آنذاك، ملتقى تجارياً مهماً، وحاضرة دينية كانت تُشد إليها الرحال من كل حدب وصوب. وحتى في عهود النبي محمد، والخلفاء الذين تولوا الخلافة بعده، ومن بعدهم الملوك في عهود كل الدول التي تعاقبت على حكم المسلمين، لم يشهد التاريخ أن تحولت مكة إلى عاصمةٍ لملك أحدهم، على الرغم من قداستها عند المسلمين، ولعل الحكمة من ذلك هي التمييز بين تدبير الشأن العام المدني الذي يبقى مجاله السياسة وما تفرضه من اختلاف في الرؤى والتوجهات والاختيارات، وتدبير شأن ديني مقدس، لا مجال فيه للمنافسة، وإنما للتعاون على البر والتقوى، كما دعا إلى ذلك القرآن الكريم. ومن باب هذه الدعوة القرآنية للتعاون على البر والتقوى، يطرح هذا الموضوع، هنا، للنقاش بدون خلفيات سياسية، وبعيداً عن الخلافات المذهبية والإيديولوجية.
لا يتعلق الأمر بتحويل مكة والمدينة إلى "فاتيكان" للمسلمين، فليس هذا هو موضوع النقاش، فالإسلام ليس دين كهنوت أو إيكليروس، أي طبقة دينية تتكلم باسم الدين، وتحوله إلى وسيلة لبلوغ السلطة والنفوذ والمال. فكرة هذه المقالة بعيدة عن الدعوة الإيرانية إلى تأسيس هيئة إسلامية عليا للإشراف على الحج، وبعيدة عن أصوات تركية تحنّ إلى عهد إشراف "الأستانة" على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة.
تقوم الفكرة هنا على السعي إلى فتح النقاش للبحث عن كيفية استفادة فقراء المسلمين من
الأمر هنا لا يتعلق بعملية "ماركتينغ" كالتي تقوم بها شركات كبرى للحفاظ على أسواقها في دول فقيرة، وتلميع صورتها لدى مستهلكيها، فهو يدخل في روح فكرة الحج الدينية التي تقوم على التعارف والتقارب والتوادد والتعاون بين الشعوب.
وللتذكير فقط، تقدّر عائدات السعودية السنوية من العمرة والحج بمليارات الدولارات، فقد فاقت عام 2014 سقف 16.5 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم مع نهاية عام 2020، عندما تنتهي أشغال توسيع الحرم المكي، وأيضاً بسبب ارتفاع عدد المسلمين في العالم. وكل إيرادات الحج والعمرة تذهب اليوم إلى خزينة الدولة السعودية التي تبرّر ذلك بإنفاقها على توسيع الحرم وتطوير الخدمات وأعمال الصيانة والأمن والإدارة.. على الرغم من أن المسؤولين السعوديين يقولون دائماً إن ما يحصل هو العكس، أي أن الدولة هي التي تصرف على الحج، وإذا كان الأمر كذلك، فأين تذهب عائدات الحج والعمرة؟ أليس من حق فقراء المسلمين الاستفادة منها؟
أعرف أن الأسئلة مستفزة، والفكرة مثيرة للجدل وللحساسيات أيضاً. لكن، إذا كنا نؤمن بفضيلة النقاش، فلماذا لا نطرحها بصوت مرتفع، حتى نحرّرها من خلافات السياسيين، ومن صراعات المذهبيين.