أين أفريقيا؟

20 أكتوبر 2014

بريشة "ليزيت كواليخيلي-1753"

+ الخط -

يبدو السؤال غريباً للوهلة الأولى، أين أفريقيا؟ وتبدو الإجابة عليه بسيطة وبديهية. ولكن، هذا السؤال مركزي في الفلسفة الأفريقية الحديثة، وكان الفلاسفة الأفارقة يتساءلون هل أفريقيا حيزاً مكانياً أم رؤية فكرية؟ وانقسموا بين أفريقيا الفكرة وأفريقيا المكان، ثم ماذا يعني أن تكون أفريقياً؟ كان للحقبة الاستعمارية المظلمة في أفريقيا واسترقاق الإنسان الأفريقي واستباحة إنسانيته وحريته وخيرات بلاده كان لها الأثر الكبير في التفكير الأفريقي.

وأكيد أن الرقّ للإنسان الأفريقي والتفرقة العنصرية المقيتة التي مارسها الغرب عليه حفرت ندوباً غائرة في الشخصية الأفريقية، وفكرها، وجعلت للّونين، الأسود والأبيض، بعداً ومعنىً ودلالة. وأن صورة أفريقيا وإنسانها، وهو يعاني الجهل والمرض والحروب، كانت نتاجاً طبيعياً لما فعله الاستعمار الأوربي بالقارة السمراء، والتي عندما وطأت قدماه أرضها، ذهل من ثروات القارة البكر، وأراد الاستحواذ عليها، واستمرارية تدفق المواد الخام، لأنه لا يملك غير مصانع إسمنتية وآلات باردة. ومثلما احتقر وازدرى ثقافة الشعوب التي استعمرها، مارس في أفريقيا هذه المشاعر القبيحة، ولم يكتف بذلك، بل استعبد الإنسان الأفريقي، وعاقبه على لون البشرة المختلف، وكأن سواد البشرة جريمةً، تحط من قدر الإنسان، وتجعله لا يستحق معاملة بشرية، فأخرج المستعمر الذي يتمظهر بصورة المنقذ الأبيض بشاعة دواخله، وانحراف سلكوه بجرائمه التي ارتكبها، ومازال يرتكبها، مع من مكّنهم في كراسي السلطة، والذين تآمروا معه، لقتل أبناء جلدتهم من دعاة التحرر، مثل باتريس لومومبا، أو نفيهم مثل نكروما، لضمان تدفق المواد الخام.

وكانت الثقافة الأفريقية قبل الاستعمار ضاربة في القدم، مثل الثقافتين، الصينية والهندية، وأميركا الجنوبية، وكانت شفوية، وفلسفتها تدور حول حكمة الموت والروح ومعنى الخلود واللانهائية، وحكمة أن يعيش الإنسان جزءاً من البيئة المحيطة به، وليس مسيطراً عليها.  وبعد هيمنة الاستعمار الأوروبي، استحقر ذلك، وأدخلت أفريقيا قسراً الدين المسيحي، وحصل استرقاق للغة، وفرضت اللغات الأوروبية، مثل الإنجليزية والفرنسية وغيرها، وبالتالي حصل انفصام للإنسان الأفريقي الذي يتعلم بلغة أجنبية، ويزاول الحياة وعادته بلغته.

وحتى ستينيات القرن الماضي، كان المستعمر الأوروبي يعتبر أن أفريقيا، قبل الاستعمار، كانت تعيش في ظلام، فقد ذكر هيو تريفور، في محاضراتٍ، بعنوان "نشأة أوروبا المسيحية" (ربما يكون لأفريقيا دور في المستقبل. ولكن أفريقيا ليس لها دور حالياً. كل ما لدينا هو تاريخ الأوروبيين في أفريقيا، والباقي ظلام، وليس الظلام من موضوعات التاريخ). هكذا كانت تحتقر الثقافة الأفريقية التي كانت سائدة قبل استعمارهم. وهذا التفكير اللاأخلاقي الذي سمح لهم باستلاب خيرات القارة، واستعباد إنسانها، وصم الحضارة الغربية بالعار. أما الإنسان الأفريقي في الشتات، بعد أن تم استرقاقه، وعاش في بلاد أخرى، مثل أميركا، أو الذي عاش في بلده مواطناً من الدرجة الرابعة، بعد أن استوطنها البيض (جنوب إفريقيا) عاني الأمرّين من العبودية والتفرقة العنصرية، والتي تجعله في مرتبة أدني من البشر.

وعلى الرغم من أن الإنسان الأفريقي تصدى لكل هذه الغرائز البشعة، وصارت أسماء دعاة الحقوق المدنية والمساواة، أمثال نيلسون مانديلا ومالكوم إكس ومارتن لوثر كنج، أسماءً حفرت من ذهب في الذاكرة الإنسانية، ولكن المعاملة الدونية التي عانى منها إنسان القارة خلفت ندوباً وجروحاً غائرة في الفكر الأفريقي عموماً، والفلسفة خصوصاً، التي صارت تطرح أسئلة جدلية، هل لأفريقيا تاريخ؟ هل الشعب الأفريقي شعب علمي؟ وقد سعى الفيلسوف السنغالي، الشيخ إنتا ديوب، إلى إثبات مساهمة الزنجية في الحضارة العالمية، وكانت كتبه "الأصول الزنجية للحضارة المصرية" ورسالة الدكتوراة التي رفضتها جامعة السوربون (الأمم الزنجية والثقافة)، ولم تعطها له إلا بعد عشر سنوات، على الرغم من أنها مشفوعة بالأدلة العلمية.

لذلك كله، تميزت الفلسفة الأفريقية عن غيرها من الفلسفة العالمية بأنها مصبوغة باللونين، الأسود والأبيض، اللذين لهما دلالتهما وجدليتهما، كما أسلفنا، وبالتشاؤمية. وكانت تطرح أسئلة جدلية انقسم حولها الأفارقة. ماذا يعني أن تكون أفريقياً؟ وهل أفريقيا حيز مكاني أم فكرة؟ وإذا كانت أفريقيا مكاناً، أين ينتهي العالم لتبدأ أفريقيا، وذلك لأن هيجل اعتبر شمال أفريقيا جزءاً من آسيا العربية. وهل الشعب الأفريقي شعب علمي؟ ويرجع فلاسفة، مثل الشيخ إنتا ديوب، جميع العلوم إلى الذهن الأفريقي، ويقول (أفريقيا التي نعرفها هي أفريقيا المصطنعة، والتي خلفها زوراً الذهن المستعمر. علينا أن نعيد اكتشاف أفريقيا الحقيقية، كما هي، بعيداً عن النظرة العنصرية التي بررت دماء الأفارقة لبناء أوروبا وأميركا).

4749C577-0308-4FE3-AC19-C56F54DD1078
رجاء بابكر

باحثة سودانية، وكاتبة صحفية، وناشطة في منظمات المجتمع المدني.