أيمن البوغانمي: في تنقية ترسانة المفاهيم السياسية

17 ابريل 2016
(من غرافيتي في تونس)
+ الخط -

لعل توصيف "الربيع العربي" الذي جرى على الألسن شعبياً وإعلامياً لا يجد التقبّل نفسه في الدراسات العلمية خصوصاً منها المتعلقة بالعلوم السياسية، وهو ما يسري على الكثير من المصطلحات والمفاهيم.

شيء من ذلك نلتقطه في كتاب "الخريف العربي: في التناقض بين الثورة والديمقراطية" للباحث التونسي في العلوم السياسية أيمن البوغانمي الذي جرى تقديمه قبل يومين في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس.

في كلمته، يؤكد البوغانمي أنه يحاول أن يعيد ما يجري تداوله إلى "ثوابت علمية"، من هنا يشير إلى استسهال استعمال مفردتي الثورة والديمقراطية ما يخلق فوضى مفاهيمية تعيق أية عملية فهم وبالتالي كل محاولة بناء، مرجعاً جزءاً كبيراً من "حالة الإحباط ما بعد الثوري" إلى هذه الفوضى المفاهيمية.

يتخذ الكاتب التحوّل الديمقراطي في تونس مثالاً، فيقول "إن كل الانتقالات التي حدثت غير ديمقراطية سوى على مستوى الإجراءات". يعتمد بوغانمي على تعريف النمساوي جوزيف شونمبيتر بكون الديمقراطية "منافسة منظمة وسلمية للحصول على السلطة اعتماداً على أصوات الناس". يعتبر بالتالي أن الديمقراطية في تونس لا تزال شكلية، فتمرير السلطة جرى في إطار "الحوار الوطني" الذي احتفي به به داخلياً ودولياً بمنحه جائزة نوبل، غير أنه ليس إجراءً ديمقراطياً بالتعريف.

هكذا يعتبر البوغانمي أن الديمقراطية في تونس متوقفة عند الشكليات، فيما تظل مضامينها غائبة، ومضمونها الرئيسي هو ثقافتها. يرى الكاتب أن الوضع الذي تعيشه الحياة السياسية في تونس طبيعي فليست هناك تقاليد ديمقراطية في المنطقة، وأقصى ما يمكن التطلع إليه حالياً هو تأسيس مضامين هذه الديمقراطية مثل العدالة الاجتماعية والحريات الفردية وغيرها، ومن هنا تتأتى ضرورة تنقيتها معرفياً، ومن ثمّ بناء ثقافة تراكمية حولها.

يرى البوغانمي أنه في غياب التنظيم المفاهيمي يمكن الدخول في مرحلة من التدمير الذاتي لأن المنافسة في أجواء الثورة تكون محمومة وغير منظمة، وهو ما يسميه بـ "الحالة الرخوة" أو "انكسار سلطة القرار"، لكنه في المقابل يؤكّد أن نقد الديمقراطية لا ينبغي أن يتحوّل إلى القول بالخروج عنها، فما يمكن استنتاجه من قراءة تاريخ الفلسفة السياسية على مدى قرون أفضى هو أنها أقل الحلول سوءاً، فكل الحلول المطروحة الأخرى تؤدي إلى الاحتراب.

بخصوص مفهوم الثورة، يرى البوغانمي أن ثمة الكثير من المغالطات القائمة على حسن النية وسوئها في الوقت نفسه، فالثورة بطبيعتها غير قانونية، فلا يوجد دستور يشرّع للثورة، فالدساتير بحسبه مكتوبة جميعها بلغة تكاد تكون أزلية.

من جهة أخرى، يناقش الكاتب القول بتحميل الثورة الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إذ يعتبر أن الثورة (وهي مطلب شعبي) تضعف الدولة بالضرورة، لأن انهيار النظام أو ترنّحه هو مس بالعقل المدبّر للدولة، وهو ضعف داخلي خارجي، ويفصّل ذلك بالقول إن "انفتاح الدولة على الجماهير هي لحظة تهديد بالاختراق الخارجي" كما هو الشأن في حال انغلاقها تماماً عن المجتمع.

يتابع المؤلف تحليله بالقول "بعد الثورة، تجد الدولة نفسها مجبرة على شراء السلم الاجتماعي فيطالبها كل طرف بحقوق، وهنا يصعد دور المجموعات الوسطى في التأثير (النقابات والأحزاب والقبيلة كشكل بدائي لها) ما يخلق صراعاً بين المجموعات الوسطى والجماعة الكلية، وهو ما تعيشه تونس اليوم".

حول أسباب الفوضى المفاهيمية التي يتحدّث عنها، يرى البوغانمي أن هذه المصطلحات والمفاهيم يجري أقحامها في سرديات عن الثورة وعن الأحداث السياسية، وهو هنا يأخذ مثلاً التعامل الإعلامي مع الأحداث الإرهابية التي تتداخل مع نزعات مركزية داخلية وخارجية ومع أبعاد أسطورية واستشراقية وغيرها.

على مستوى أوسع، يشير البوغانمي أن ثمة ضعفاً عربياً في التقييم الجيوسياسي الموضوعي، الذي ينبني بالأساس على معادلات موازين القوى. هذه المعادلات تحجبها طريقة استعمال نظرية المؤامرة التي ينبغي التعامل معها كواقع جيوسياسي باعتبار أن الغرب يتصرّف كإمبراطورية في العالم، والتالي فمن الطبيعي أن يتآمر، ليكون دورنا هو تحدّي تآمر الغرب وليس توصيف تآمره.

في الجزء الأخير من كلمته، يؤكّد البوغانمي أن هدف عمله ليس إدانة الثورة، وهو ما يلتقي مع مقولات تيارات "ثورة المضادة"، إذ يؤكد أن "القول بأن الثورة كارثية لا يعني رفضها، فهي كانت الطريق الوحيد للإصلاح غير أن تبعاتها شيء آخر، وقد ساهم في صناعته من كانوا ضدّها أيضاً، وكثير من تعثّراتها تعود أسبابه إلى ما قبلها، فمثلاً يعود انتشار الفساد بعد الثورة إلى أن النظام كان يحتكره". يختم البوغانمي حديثه بالقول "إننا نقع كثيراً في خطأ هو أن نحسن التشخيص ثم نخطأ الدواء". 

المساهمون