أول ما تحرقه القذائف... الكتب

08 أكتوبر 2015
أول ما تحرقه القذائف... الكتب (Getty)
+ الخط -
تتبعثر قطع الروح، مع مشهد حجارة السور المحطّمة، وترتسم في المقلتين دمعات، تبحث عن مجرى لها، فتأبى النزول، ولكنها تحفر أخاديدها على جدران القلب. يتهاوى إثرها صرح من الذكريات، ويتدحرج من علٍ ليحتل قاع الذاكرة، التي تخال أنك تحرّرت من أسرها..


هو حال كل مواطن سوري، تطالعه صور أكوام الحجارة لأمكنة، حفر على جدرانها ذكرياته، ورسم أحلامه في فناءاتها، لتتحول إلى بقايا أمكنة، تحتضن داخلها شظايا روحه، وهو حالي أنا أيضاً حين فتحت حسابي الشخصي على صفحة "الفيسبوك"، لتهاجم ذاكرتي صورة أكوام الحجارة التي خلّفتها الغارة الجوية، على مبنى المركز الثقافي في مدينتي.. إدلب.

كانت حجارة السور الصفراء، مرمية على قارعة الطريق، لم تفقد بريق لونها الذي يجرح الذاكرة، ولكنها تهاوت على الأرض، مصطحبة معها أغصان شجرة المشمش التي كنا نتسابق إلى قطافها في الربيع.

أشجار الصنوبر العالية، كانت ما تزال شامخة، متحدية الطيران وهمجيته، بل إنها اكتست خضرة زائدة، تتحدى بها شحوب الأمكنة، ولتثبت أنها ما تزال مفعمة بإرادة الحياة، في مكان كل ما فيه ينضح بالموت.

كنت أهوى ذلك المكان، قبل أن أتمكّن من الوصول إلى حلمي للعمل فيه، إذ لطالما تهكّم أصدقائي من شغفي بالقراءة والكتب، وتنبأوا أن تكون نهايتي بسبب هذا الشغف، كأن تقع علي مكتبة، على سبيل المثال! لذلك اعتدت أن أقضي عطلتي الصيفية في أروقته، لأستعير منه من الكتب والروايات، ما يسكت نهمي. لم يكن يعنيني قيظ الصيف، كلّ ما كان يعنيني هو أنني سأذهب إلى ذلك المكان الذي كان يثير فضولي منذ طفولتي المبكّرة.

رائحة الكتب والجلسات الشتوية الدافئة، ما تزال تدغدغ ذاكرتي.. تلك الرائحة التي كان كثير من الموظفين يتذمرون منها، زاعمين أنها تتسبب لهم بالربو والحساسية؛ الغريب أنني بالرغم من كلّ العوارض الصحية التي صاحبتني طيلة ثماني سنوات من العمل في هذا المركز، غير أنه لم يصدف أن كانت رائحة الكتب هذه إحدى أسبابها!

في طعنة مريرة للذاكرة، تستحضر صورة رفاق الدرب، زملاء العمل، بينهم من باتت تفصلك عنهم وديان وجبال، وبينهم من أصبح يقف على الحافة الأخرى للجرف، ويفصله عنك نصف مليون شهيد يملؤون قعر هذا الجرف! فتنمحي تلقائياً تفاصيل وجهه من ذاكرتك المتعبة، وتصبح المسافة التي تفصل بينكم ألف سنة ضوئية، ثم تعجز عن تقدير الزمن حين يصل الأمر إلى صور زملائك الشهداء.

تعتريك حالة من الرعشة، من الخوف، من الذهول، حين تستعيد ملامح وجوههم، وتستحضر صورتهم في شريط ذكريات سريع؛ زميلنا "أحمد"، رئيس المركز الثقافي قضى برصاصة قناص طائشة، لم يتمكّن أحد من التحقق من مصدرها، وضاع دمه بين القبائل.

حين أستعيد صورته، لا تحضرني إلا صورة ذلك الأب الحنون على أولاده، شغفه الدائم في الحديث عنهم، احتضانه الدائم لهم لدرجة تجعل من زملائه يتذمّرون، لكننا بعد رحيله اكتشفنا أنه كان بحدسه الأبوي، يدرك أنه سيغادرهم باكراً، وأن الحنان الذي ينبغي أن يمنحه لولده حتى يبلغ العشرين، يجب أن يستنفده خلال سنوات ست، هي عمر ابنه الأكبر حين رحل!

تلك الصور المؤلمة سرعان ما تختفي من الذاكرة، لتحلّ محلها صورة الحديقة الجميلة، وأشجارها السامقة.. أصوات العصافير المغرّدة على أفنانها وهي تستقبلنا صباحاً.. رائحة القهوة والهال، وابتسامة "أحمد" وهو يدعونا لنشرب قهوة الصباح في مكتبه، أو يدعو نفسه لتناولها في مكاتبنا.. رائحة الكتب التي تخز الذاكرة وتدمي القلب، طلاب الجامعات الذين يهرعون إلى مكتبة المركز لاستكمال حلقات البحث؛ ذلك الموسم الذي كان يتذمر منه كل عاملي المركز، بسبب ضغط العمل، وانتشار الفوضى. اليوم أستحضر صورهم وأتمنى لو يعودون، فزياد اختفى منذ ثلاثة أعوام بعد أن ترك الجامعة ولم يتبق له أكثر من مادتين ليتخرّج، ذهب ليعمل في لبنان بعد أن فقد الأمل من المستقبل في سورية، كثيرون من زملائه أعيدوا لأهلهم جثثاً قضت تحت التعذيب، أما هو فما زال رقماً، وما من أحد يعلم إن كان رقماً لمعتقل، أو لجثة!

عامان ونصف يفصلان بيني وبين آخر مشوار سرته بمحاذاة هذا السور الأصفر الأنيق، عامان خلالهما تسرّب كثيرون منا من بين أصابع البلد، ولكنه بقي سوراً أصفر.. اليوم لم يترك لنا الطيران خيار لملمة الذكريات، فقد بدا المركز أثراً بعد عين؛ عامان ونصف من البحث عن ذكريات جديدة، تمحو آلام الذكريات الماضية ومرارتها، ولكن أول صدمة تدهم مخيلتك، تذكّرك بضعفك أمام ذكرياتك..

أسارع إلى محو الصورة من شريط الذاكرة، أستعيد صورة أروقة المركز وذكرياتي في كلّ ركن من أركانه، أستحضر صور الشهداء وأبادلهم تحية الصباح والدعوة إلى فنجان القهوة.. ألملم صور من كانوا طلبة جامعة وأجمعها في ألبوم للذاكرة، ممنية النفس أن ضحكاتهم ستعود يوماً ما إلى فناءات هذا المركز.. وأننا سنعود لنتسابق على قطاف شجرة المشمش كي نتناول المشمش الأخضر في مشوارنا الصباحي إلى العمل، أو أنني سأعود لأرى الكتب على رفوفها، ورائحتها تعبق في المكان؛ ثم أتذكّر فجأة أن أول ما تحرقه القذائف، هو الكتب.

(سورية)
دلالات
المساهمون