ارتقت السويد، أول مرة، قمة سلم الجوائز في البندقية، بعدما كرست الدورة الواحدة والسبعون من مهرجان البندقية السينمائي الدولي، حضور السويد عبر منح المخرج، روي أندرسون، جائزة الأسد الذهبي عن فيلمه العاشر، وهو الجزء الثالث من ثلاثيته عن الإنسان والمجتمع في السويد. واعتبر ذلك تأييداً لنزعة التمايز والاختلاف في الرؤية السينمائية شديدة الخصوصية لهذا المخرج والمنتج والممثل، الذي استهل عمله عام 1970 بالحديث عن المجتمع السويدي في "قصة حب سويدية"، ونال عنه الجائزة الكبرى في مهرجان برلين حينها.
فيلم الجائزة الأولى
"حمامة تجلس على غصن وتفكر في الوجود" عنوان فيلم أندرسون الأخير، بعلامات سخرية سوداء كمنت في كل لقطة من لقطات الفيلم الذي يبدأ بثلاثة مشاهد عبثية عن الموت الفجائي، لتنسحب هذه العبثية على الفيلم في مجمله، الذي يسجل مثل عمل أوبرالي، متواليات عن الحياة والعبث والموت في مقاطع تصويرية كاملة، احتاج المخرج أربع سنوات لإنجازها، وواجه خلالها صعوبات عديدة.
قدم أندرسون في شريطه هذا عملاً يمزج الواقع بالخيال، مبرزاً لغة سينمائية واثقة وعنيدة في إصرارها على اللوحة – الإطار الثابت المفتوح على أبواب ونوافذ خلفية، أو أطر أخرى تنتظم في الكادر الكبير وتصنع بدورها الحدث.
بين حكايات أندرسون الصغيرة المتفرقة خيط يجمعها شخصان مسنان يرغبان في الترويح عن أشخاص آخرين عبر محاولتهما بيع أقنعة دراكولا وأدوات قد تكون مسلية، وبدل أن ينجحا في تسلية الآخرين تفشل مساعيهما، لتبدو في كل مرة أقرب إلى طقوس مأتمية تزيد من التحديات المطروحة على عاتقهما وتدفعهما إلى مزيد من الانطواء والعزلة.
إنه عقم أن تكون إنساناً في مجتمع حديث وميسور. هذا ما صوره أندرسون مرة جديدة في الجزء الثالث من ثلاثيته السينمائية، التي عمد فيها كما في أعماله السابقة إلى انتقاد الفرد وانفصاله عن المجتمع في السويد. ويمكن لمن يشاهد شريط "حمامة تجلس على غصن وتفكر في الوجود" ألا يتعاطف مع ما يشاهده، وأن تتسرب إلى نفسه تلك البرودة التي بالغ في عرضها الفيلم، لكن الشيء الأكيد أن هذه المتواليات من مشاهد مرصوفة متعاقبة تبقى طويلاً في ذاكرة المشاهد بعد مغادرته قاعة العرض.
نجاح أردني في "آفاق"
جاءت جوائز مسابقة "آفاق" لتعزز من اتجاه لجنة التحكيم إلى مكافأة أعمال متميزة من العالم الثالث، وترأست لجنة تحكيم المسابقة المخرجة الصينية آن هوو.
وكانت مفاجأة الجميع منح جائزة الإخراج للفيلم الأردني "ذيب" للمخرج ناجي أبو نوار، الذي صور حياة البدو في بداية القرن التاسع عشر إبان الثورة العربية.
وقالت لجنة التحكيم إنها فعلاً مقتنعة باستقلالية وجمالية عمل هذا المخرج، فيما علق أبو نوار مازحاً: "جئنا إلى البندقية بذئب ونذهب منها ومعنا أسد". المخرج الأردني اعتبر في حديث خاص لـ"العربي الجديد" أن المشاركة في مسابقة آفاق - البندقية تعتبر في حد ذاتها "جائزة ليس لي ولكن للعمل والجهد اللذين قاما بهما البدو لمساعدة إنجاز هذا الفيلم. لقد كانوا أشخاصاً مستعدين للتضحية، خصوصاً في العالم المحكوم بالمصالح الذي نعيش فيه اليوم".
صور ناجي أبو نوار الفيلم كاملاً في الصحراء، جنوب الأدرن، وعرض حياة صبي يتعلم معاني الرجولة والاعتماد على الذات في قلب الصحراء القاسية، وختم كلامه في المؤتمر الصحافي بالإعراب عن أمله في العودة مرة أخرى إلى البندقية.
وهذه هي المرة الأولى التي تفوز فيها السينما الأردنية بجائزة عالمية، إثر تنامي الإنتاج السينمائي في السنوات العشر الأخيرة، وهو الأمر الذي يبشر بولادة مواهب جديدة.
كونشالوفسكي يرفع الغطاء عن بؤس روسيا
إذا كان روي أندرسون انتزع الذهب، فإن الروسي أندري كونشالوفسكي (أخ المخرج نيكيتا ميخايلكوف) العائد إلى البندقية بعد غياب طويل قضاه في إنجاز الأفلام الوثائقية، انتزع الفضة، وداعب أندرسون إذ وضع أسده الفضي في مواجهة أسد أندرسون الذهبي خلال المؤتمر الصحافي. لعل في هذه الصورة إشارة رمزية إلى أن العملين اللذين كافأتهما لجنة التحكيم بأرفع جائزتين كانا مسرفين لناحية الإغراق في الواقعية أو الذهاب بعيداً في الفانتازيا.
يقترب الفيلم الروسي "ليالي ساعي البريد البيضاء" كثيراً من نهج الشريط الوثائقي، وصور قريباً من بحيرة في منطقة ريفية روسية نائية، ناقلاً بؤس الحياة الفقيرة الى مجموعة من الأشخاص الحقيقيين، غير ممثلين، وقارب بين واقع هؤلاء في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي وبين واقع الطموحات الروسية. وعلى طول الشريط فإن المخرج يصور مسعى الحفاظ على الكرامة الإنسانية لاشخاص يواصلون الإيمان بالحياة، رغم قساوة المكان وفساد السلطات أو غيابها في عمل يمزج الروائي بالوثائقي، وينطوي على انتقادات مبطنة للسياسة الاقتصادية الروسية اللاهثة وراء مشاريع كبرى، تاركة الإنسان يجرجر بؤسه اليومي من حوله.
كونشالوفسكي قال عن نيلَه الجائزة "شرف كبير لي" مضيفاً: "اليوم الشباب يتمكن من عمل أفلام بالأيفون ويمكن أن ننفذ أشياء مهمة في السينما بشكل بسيط ومن دون تعقيد".
واقع أبعد من الفانتازيا
ثالث أهم جائزة في المهرجان، حصل عليها فيلم "شكل الصمت" الذي فضله كثير من النقاد على غيره من الأفلام، وهو وثائقي للمخرج الأميركي - الدنماركي، جوشوا اوبنهامر. تناول الفيلم-الوثيقة، مجازر ارتكبت في حق شيوعيي أندونيسيا عام 1965 ممّا أدى إلى تصفية مليون شخص، من دون أن يحاسب عليها أحد إلى اليوم، بل إن مرتكبيها باتوا في الحكم. وهذا العمل الذي عرض في الأيام الأولى من المهرجان، هو جزء ثانٍ من عمل المخرج على الموضوع نفسه، وتناول موضوع الصفح وطي صفحة الماضي في بلد واسع مثل اندونيسيا. وتمكن من وضع الجلاد في مواجهة عائلة ضحيته، التي ظل الأخ فيها محافظاً على هدوئه وصبره وعزة نفسه في مواجهة القاتل، وهذا وحده وضع يمثل غرابة قد تفوق الخيال.