أوكرانيا: ما بعد وقف إطلاق النار في الشرق

09 ديسمبر 2014
اليوم تنتهي الحرب في أوكرانيا؟ (إريك ايفيربيرغ/فرانس برس)
+ الخط -
من المفترض أن يدخل وقف النار وفقاً لاتفاق مينسك، الموقّع في سبتمبر/أيلول الماضي، بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين في الشرق، حيّز التنفيذ اليوم الثلاثاء. ويترقّب العالم، ما إذا كان ذلك سيُعيد السلام والأمن إلى البلاد وعودة لحمتها، أو أن يُكرّس الاتفاق، ما وصلت إليه الأمور على الأرض من تقسيم البلاد إلى شرقية روسية وغربية أورو ـ أميركية.

فمع تخلي كييف عن التزاماتها تجاه مواطنيها في شرق البلاد تقنيّاً واقتصاديّاً بمرسوم رئاسي، تركت شعبها هناك أمام خيار وحيد، هو الارتماء حتى النهاية في أحضان روسيا. ويعزز ذلك تأكيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أن موسكو ماضية في تثبيت سياستها في أوكرانيا، ما قد يصعب الحديث عما يتجاوز ترسيخ حدود الانفصال عبر وقف إطلاق النار، وقد يغدو الحديث، عن الفيدرالية التي كانت مطلباً شرقيّاً في البداية، متأخراً غداً. فأي جهة تريد ترك الجرح الأوكراني ينزف؟

وسبق ذلك، إبداء موسكو استغرابها، في كيفية جني كييف أي فائدة من حرمان المناطق الشرقية من الخدمات (الكهرباء والماء والغاز، والرواتب التقاعدية والأجور..)، وأكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ذلك، بقوله في مدينة بازل السويسرية، يوم الجمعة الماضي، "استغربنا حين أصدر الرئيس الأوكراني، بترو بوروشينكو، مرسوماً، قطع في الجوهر المناطق الشرقية، عن المنظومة الاقتصادية المالية الأوكرانية".

وتابع "لم يُسمح بتسديد الرواتب التقاعدية وغيرها من الأجور والرواتب، وأخرج المناطق الجنوب شرقية من منطقة الغريفنا (العملة الأوكرانية). لا يبدو مفهوماً ما الذي يحدث مع السلطة الأوكرانية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه عن وحدة أراضي البلاد، تقتطع بيدها هذه المناطق من الجسم الاقتصادي المالي الأوكراني. لا أعرف ما إذا كان هذا ضروريّاً، ولكن يمكن تفسيره من زاوية واحدة، هو أن هذا الأمر يصبّ في مصلحة أحد ما، في عدم التئام الجرح".

وعلى الرغم من ذلك، أحدث بوروشينكو فجوة في الجدار، حين غرّد في حسابه على موقع "تويتر"، في الرابع من ديسمبر: "حددنا الإجراءات التي ينبغي أن تضمن تنفيذ اتفاقات مينسك". وكان لوقع كلام بوروشينكو، أثر إيجابي، فنقلت وكالة "ريا نوفوستي"، تأكيد "جمهورية دونيتسك الشعبية"، المعلنة من طرف واحد، على الاتفاق، على لسان رئيس "برلمان دونيتسك"، أندري بورغين، الذي لفت إلى أنه "تم الاتفاق على وقف إطلاق النار". إلا أن بورغين أكد أنه لا يعرف بعد شروط وقف إطلاق النار المنتظر.

إلى ذلك، نقلت وكالة "تاس" تصريح رئيس "جمهورية دونيتسك الشعبية"، ألكسندر زاخارتشينكو، الذي يوحي من خلاله بأن "كييف الرسمية تريد السلام، لكن هناك من لا يريده ويخضع لأوامر جهات أخرى فيستمر في إشعال الحرب".

ويضيف زاخارتشينكو "تتم المشاورات كمن يخوض الماء"، شارحاً "هناك من العسكريين الأوكرانيين من لا يخضع لكييف، بعضهم يتحدث عن السلام، فيما الآخرون يطلقون النار. ودونيتسك في انتظار أن يتخذوا في كييف قراراً موحداً، وبعد ذلك فقط يمكن أن تجري محادثات طبيعية".

وفي سياق التحضير لهذه الجولة، عاد بوتين إلى التشكيك في شرعية سلطة كييف، وتأكيد أن الانقلاب الذي جاء بها هو السبب فيما تعانيه البلاد اليوم، فقال في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية، الخميس الماضي، "لقد أدنا الانقلاب والاستيلاء بالقوة على السلطة في كييف في فبراير/شباط الماضي، وما نراه الآن في أوكرانيا، في مأساة جنوب شرق البلاد، يؤكد تماماً صحة موقفنا".

وفي العودة إلى الأسباب، وتحميل المسؤوليات، يقول "بالطبع من حقنا طرح سؤال من أجل ماذا حصلت هذه المأساة في أوكرانيا؟ إلا أنهم يحاولون الآن إقناعنا، أن ذلك هو السياسة المتوازنة والصحيحة، التي يجب أن نخضع لها. وهذا لن يحصل". وبالطبع، فإن المعني بسخرية بوتين في تعبير "السياسة المتوازنة والصحيحة" هو الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، التي يرى الكرملين أنها تخرب علاقات روسيا بجيرانها.

وفي هذا يؤكد بوتين "ليس عبثاً أنني ذكرت أصدقاءنا الأميركيين، ذلك لأنهم يؤثرون دائماً، سواء بصورة مباشرة أم من وراء الكواليس على علاقاتنا بجيراننا. وحتى أنك لا تعرف أحياناً مع من يفضّل أن تتحدث، مع حكومات بعض البلدان أم مباشرة مع حُماتهم ومموليهم الأميركيين".

من الواضح أن مصير أوكرانيا لا يقرر في كييف، وأن الغرب الأطلسي الذي يعاقب روسيا على سياساتها حيال أوكرانيا، لن يجني سوى المزيد من تزمّت الكرملين. فضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا مسألة لا تراجع عنها، وها هو بوتين يضعها في مصاف المقدسات، فيقول "هنا بالذات يقع الجذر الروحي لتشكل الأمة الروسية المتنوعة، ولكن المتجانسة وللدولة الروسية المركزية. القرم بالنسبة لروسيا كمثل جبل الهيكل في القدس بالنسبة لمن يدينون بالإسلام أو اليهودية".

وحسم "لا مساومة على هذا الأمر، وروسيا لا تقبل النقاش في المسائل السيادية. وإذا كانت العزة القومية، بالنسبة لبعض البلدان الغربية، مفهوماً منسيّاً من زمان، فإن السيادة الحقيقية بالنسبة لروسيا شرط ضروري بالمطلق لوجودها".

إلا أن الكرملين بالتوازي مع ذلك يفتقر إلى معرفة الخطوة التالية التي ينبغي القيام بها، فهو يبدو كمن ينتظر ما سيقوم به الغرب ليردّ عليه، ويوحي ذلك بلعبة خطيرة بلا قواعد. وهو ما يشغل المحللين السياسيين ومراكز الدراسات. ففي إطار التساؤل عما إذا كان لدى الكرملين خطة عمل للخطوات المقبلة، نقلت وكالة "ريا نوفوستي" رأي الخبير في معهد الأبحاث السياسية الإنسانية، فلاديمير سلاطينوف، الذي يؤكد، من خلاله، أن "بوتين لم يوضح، لا في الشأن الأوكراني ولا في شأن النظام الدولي، ما يجب فعله تاليّاً. فقد كرر الطروحات الأساسية بخصوص أوكرانيا، من دون أية مبادرات جديدة. الحوار مستمر، المساومة مستمرة، ولكن دون إحراز أي تقدم".

ويبدو أن رئيس تحرير مركز "كاسّاد" للتحليل السياسي والمعلومات، ومشروع "صوت سيفاستوبول" للمعلومات، بوريس روجين، يشاركه الرأي فيقول معلقاً: "القرم لنا، ولن نعطيه لأحد. وهذا يعني استمرار المواجهة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتماً". ويتوقف روجين عند دلالات عدم "ذكر بوتين في خطابه لنوفوروسيا (منطقة دونباس الأوكرانية)، الأمر الذي يؤكد المعلومات المُسرّبة من وقت قريب من إدارة الرئيس الروسي عن الافتقار إلى سيناريو حديدي عند القيادة. فالوضع تجمّد عند حالة عدم التحديد"، كما يقول.

إلا أن الكرملين ليس وحيداً في افتقاره إلى خطة حيال أوكرانيا، إذ يبدو أن الاتحاد الأوروبي يجد نفسه في حالة مشابهة. فها هم المشاركون في اجتماع منظمة الأمن والتعاون الأوروبية في بازل بسويسرا يعجزون عن التوصل إلى بيان مشترك بشأن أوكرانيا، مرجعين ذلك إلى خلافات حول تقدير أسباب الأزمة الأوكرانية. فقد نقلت وكالة " تاس" عن رئيس منظمة الأمن والتعاون، ديدييه بيركهالتر، قوله إن "الأسباب تقع في الاختلاف حول تقدير أسباب الأزمة".

وعلى هذه الخلفية تبدو خطوة وقف إطلاق النار، إن نجحت، محطة مفصلية للمرحلة المقبلة، وفي انتظار ذلك، يعيدنا بيركهالتر إلى ما كان قادة شرق أوكرانيا، قد طالبوا به وقُتل دونه آلاف الناس، وهو دولة فيدرالية لامركزية، فيقول "بدأت المناقشات في منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، حول مسألة لامركزية السلطة في أوكرانيا، وضرورة تطويرها، في إطار الحوار الوطني والسياسي. نحن واثقون من أن ذلك مفتاح لحل مديد راسخ".