أوراق الجوافة

30 ابريل 2015
+ الخط -

على الطريق الزراعي تسير حافلة مكدسة بالبشر، تسمع تأوهات بعضهم عند كل "مطب" وما أكثرها. يسرون عن أنفسهم ببعض النكات المرحة، وأحيانا يخفضون أصواتهم لتبادل النكات البذيئة ثم ترتج الحافلة بضحكاتهم المبتذلة. وحين يضحكون تبرز أسنان وحشية سوداء اللون تحمل قصصاً عن " تبغٍ أزرق "، حرقوه ليسروا عن أنفسهم أو لهروب لحظي. وتحمل قصصاً أخرى عن جهل. فما الإنسان؟

تطير الحافلة في سرعةٍ مجنونة بجوار حافة النهر. أسترجع كل حكايا الموت التي يشهدها الطريق دوما. يقشعر بدني قليلا. لم أود ميتةً كهذه يوما. ثم أتشاغل عن خواطري مع نهري لأنسى مخاوفي قليلا. على جانب الطريق تتمايل شجيرات الجوافة والمانجو واليوسفي وتحرسها أشجار التين الشوكي "الصبّار". تقترب الحافلة من مدخل قريتنا. أسأل جاري في الحافلة، أين منزل السيد أحمد؟. فيجيب الركاب في صوت جماعي يعجز أفضل مدرب غناء عن ترتيبه "زيدي أحمد يا آنزه" ويخبرني معظم الركاب بأن هذه محطتهم وليس علي سوى السير خلفهم. أهمهم بكلمات الشكر، وأسرح مع نهري وجمال الليل. يوقظني توقف مفاجئ للحافلة "زيدي أحمد" أنزل من الحافلة واتبع أحدهم حتى أصل لبيت جدي رحمة الله عليه. وهناك ومن مدخل شارعنا أسمع قهقهات وأصواتاً صاخبة. إنها عطلة نهاية العام التي اتفقت عائلتي سنويًا دون موعد على قضاء جزء منها في قريتنا. في المجلس تجلس عماتي وأعمامي وأبي وأبناء العمومة، وفي الداخل أمي وأخواتي وبنات العائلة. أما الأطفال فلا مكان محدد لهم، فهم بين الداخل والمجلس وسطح المنزل وساحة البيت الترابية. يعيدون الأمجاد، فهنا لعب أبي والأعمام ولعبت أنا وأبناء العمومة. وما إن نصل حتى
تتوالى المكالمات على من بقي منا بالقاهرة. فاتكم نصف عمركم. التجمع لا يعوض.

جار البيت مسجد قريتنا. ساهم جدي في بنائه. ويجاوره "ميضة" أهملت بعد وفاة جدي. نحن أمام اختبار صعب. علينا أن نلتزم الصمت حتى تقضي صلاة العشاء. وإلا فالويل والثبور لنا من أبي والأعمام. بعد صلاة العشاء تبدأ مراسم الانتقال إلى سطح المنزل. "حصائر" بلاستيكية ومساند وحطب وبراد الشاي وبطاطا وذرة وكثير من الحلوى من الدكان المجاور للمنزل. ونصعد للسطح لقضاء ليلة هي الأروع. سمر ونكات ومرح. وعلى جانب السطح يتمدد أطفال العائلة " كما كنا نفعل قديما" ليعدوا النجوم ويراقبوا القمر وتساقط الشهب.
****

من أرض المهجر أحادثهم، أحن إلى الأرض، إلى نسمات الفجر الباردة، أحن إلى خبزٍ طازج تفوح رائحته من بعيد، أحن إلى قريتنا، إلى قمر تبعناه ولم يتبعنا، إلى موطني، يمازحونني، سنأتيك قريبا، كلنا راحلون، الوطن اليوم بلا فجر ولا خبز ولا رائحة، لم يعد الوطن حقيقياً، كل ما فيه مزيف، لكني لا أصدق، لن يفهم أحد ما أعني، كنت كذلك، في لحظة قهر وهوان، وفي لحظة غضب مكتوم قلت "ليتك يا وطني لست بوطني".

واليوم أصابتني اللعنة، لعنة حب الأرض، أُصبت بداءٍ ملعون سموه حنيناً والبعض سماه حماقة، لا أدري أتمائم عُقدت لي، كي أُئسر في بحر هواها، أم أن كتاباً قد كُتب قديماً، من يخرج من أرضك يا وطني يتحرق يتشوق يتعذب حتى يرجع؟

فإذا عاد، يتحرق، يتعذب، حتى يكفر؟ لم أفهم سرك يا أرضي، لا أفهم نفسي، أمتيم في حب صبابة، أم أني مأسور لا أرجو فكاكا، لا أفهم أن يعشق إنسان وطنًا لم يأوه/ وطناً رُويت أرضه من دمه ومن دم أخيه.

ما الوطن إذن يا صاح؟


(مصر)