12 نوفمبر 2024
أهلاً بالانهيار
أينفع بعدُ الحديث عن المآسي المتلاحقة والمتزايدة التي يعيشها المواطن اللبناني، يوما بعد يوم، مختبئا خلف قناعه الزاعم حبَّ الحياة والعيش في بلادٍ الأمنُ فيها هو من الأكثر استقرارا في المنطقة؟
البلاد تنهار حرفيا، دولةً ومؤسسات، وما خبر صرف 500 إلى 700 معلّم أخيرا (الرقم غير دقيق بسبب غياب إحصاء دقيق)، من أساتذة الملاك الخاص، إلا حلقة في مسلسل يعد بأهوال مقبلة كثيرة. الطرد التعسّفي هنا هو طرد 500 عائلة حدّا أدنى، وطرد عدد مزدوج إن لم يكن مضروبا في ثلاثة وأربعة من أبناء أولئك الأساتذة المصروفين الذين يتلقّون تعليمهم مجانا، أو على الأقل بحسوماتٍ مهمّة.
بعد التهديد بالصرف من المدارس الخاصة، وممارسة الضغوط لتقديم الاستقالة، تمّ إنجاز المهمة قبل الخامس من يوليو/تموز الجاري، وهو الموعد الأخير لتبليغ المعلمين قرار الاستغناء عن خدماتهم، استنادا إلى المادة 29 من قانون 1956، قبل انطلاق التحضيرات لمباشرة العام الدراسي الجديد، بحيث بلغ العدد، في بعض الأحيان، عشرات الأساتذة في المدرسة الواحدة. خضع بعض المدارس للقانون، فمُنح أولئك الأساتذة تعويضاتهم وحقوقهم، لكن الأكثرية لم تفعل، ملقيةً المسؤولية على عاتق الدولة والقضاء. أما عن ذريعتها، وهي مدارس كبيرة، مرتفعة الأقساط والأرباح، ومن أكثرها صرفا لمعلّميها (معظمها من المدارس الكاثوليكية)، فهو القانون 46 المتعلّق بسلسلة الرتب والرواتب، فلكي تغطي المدارس قرارها قانونيا، قامت إداراتُها بتمديد الحصّة الدراسية لتبلغ 60 دقيقة، بدلا من 50 أو 45 دقيقة. هكذا بات التلميذ يدرس ستّ ساعات يوميا بدلا من سبع، وهو ما أدّى إلى فائضٍ في عدد المعلّمين، قررت الإدارة صرفهم ببساطة. ردُّ نقابة معلّمي المدارس الخاصة جاء توكيلا للوزير الأسبق، زياد بارود، مستشارا لها، ونصائح توجهت بها إلى المعلّمين المصروفين بمراجعتها قبل التوقيع على أي ورقة، أو الاتصال بمحاميها، هي التي تقوم مهمتها على مواكبة قضايا الأساتذة ومتابعتها.
أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة، وحيال الفساد المستشري، ومعاناة الأهل والأساتذة، وجدت بعض المدارس الخاصة الصغيرة نفسها مضطرّة إلى إقفال أبوابها، لعجزها عن تحمّل أعباء السلسلة، فلا هي قادرةٌ على دفع رواتب موظفيها، ولا على دفع تعويضاتهم. الاستغلال والجشع وتحقيق الربح هي سيّدة الموقف، والمصيبة هي دائما من نصيب الفقير.
غدا، سيجبَر الأستاذُ الشاب المتخرّج حديثا على التوقيع على اتفاقٍ تحت الطاولة، يقضي بالتنازل عن كامل حقوقه وتعويضاته في ما لو جرى الامتناع عن تجديد عقده، أو صرفه، وهذا حاصلٌ أصلا، لكنه يعد بالتحوّل إلى عُرف وتقليد.
وغدا سأركب سيارة تاكسي مع معلّم مطرود، سيخبرني كيف جرى طرده من مدرسةٍ كبرى، فخرج منها بصحبة أولاده الثلاثة الذين تعدّت أقساطهم كل ما يكسبه في عام، ما اضطرّه إلى وضعهم في مدرسةٍ حكوميةٍ رسمية سيجعل مجرّد التلفّظ باسمها صوتَه يضعف ويتهدج. سيحكي لي عن جهاد زوجته اليومي، لتحمّل مديرها في المكتب، وعن قسط سيارة التاكسي المؤجّرة الذي لا يترك له الكثير، وسوف يغصّ المعلّم، مكسور الخاطر، مهيض الجناح، في لحظة ما، وهو يستذكر أوراقه وأقلامه ووجوه تلاميذه الصغار.
عشية الحرب اللبنانية الأهلية، كان باستطاعة الأساتذة المتخرجين حديثا أن يدفعوا من معاشهم، مصروفهم اليومي، وملابسهم، وكتبهم، وقسط سيارة، وإيجار بيت، وأن يسافروا حتى مرة في العام. كان باستطاعتهم أن يقرأوا، ويمرحوا، ويتزوّجوا، وينجبوا أطفالا، ويمارسوا التعليم في مدارسهم الرسمية، ومدارسهم الخاصة، حتى تقاعدهم، فهم كانوا من أبناء الطبقة الوسطى التي كانت تشكل الأكثرية من شعب لبنان.
اليوم، يُصرف الأستاذ في لبنان وكأنه رقمٌ عابر، قيمةٌ زائلة، يُرمى إلى طبقة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر وقد بلغ عددهم 28.5%، أو إلى جحافل العاطلين عن العمل وقد تخطى معدّل البطالة عتبة 20%، و60% في أوساط الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و26 عاما.
أهلا أهلا بالانهيار.
البلاد تنهار حرفيا، دولةً ومؤسسات، وما خبر صرف 500 إلى 700 معلّم أخيرا (الرقم غير دقيق بسبب غياب إحصاء دقيق)، من أساتذة الملاك الخاص، إلا حلقة في مسلسل يعد بأهوال مقبلة كثيرة. الطرد التعسّفي هنا هو طرد 500 عائلة حدّا أدنى، وطرد عدد مزدوج إن لم يكن مضروبا في ثلاثة وأربعة من أبناء أولئك الأساتذة المصروفين الذين يتلقّون تعليمهم مجانا، أو على الأقل بحسوماتٍ مهمّة.
بعد التهديد بالصرف من المدارس الخاصة، وممارسة الضغوط لتقديم الاستقالة، تمّ إنجاز المهمة قبل الخامس من يوليو/تموز الجاري، وهو الموعد الأخير لتبليغ المعلمين قرار الاستغناء عن خدماتهم، استنادا إلى المادة 29 من قانون 1956، قبل انطلاق التحضيرات لمباشرة العام الدراسي الجديد، بحيث بلغ العدد، في بعض الأحيان، عشرات الأساتذة في المدرسة الواحدة. خضع بعض المدارس للقانون، فمُنح أولئك الأساتذة تعويضاتهم وحقوقهم، لكن الأكثرية لم تفعل، ملقيةً المسؤولية على عاتق الدولة والقضاء. أما عن ذريعتها، وهي مدارس كبيرة، مرتفعة الأقساط والأرباح، ومن أكثرها صرفا لمعلّميها (معظمها من المدارس الكاثوليكية)، فهو القانون 46 المتعلّق بسلسلة الرتب والرواتب، فلكي تغطي المدارس قرارها قانونيا، قامت إداراتُها بتمديد الحصّة الدراسية لتبلغ 60 دقيقة، بدلا من 50 أو 45 دقيقة. هكذا بات التلميذ يدرس ستّ ساعات يوميا بدلا من سبع، وهو ما أدّى إلى فائضٍ في عدد المعلّمين، قررت الإدارة صرفهم ببساطة. ردُّ نقابة معلّمي المدارس الخاصة جاء توكيلا للوزير الأسبق، زياد بارود، مستشارا لها، ونصائح توجهت بها إلى المعلّمين المصروفين بمراجعتها قبل التوقيع على أي ورقة، أو الاتصال بمحاميها، هي التي تقوم مهمتها على مواكبة قضايا الأساتذة ومتابعتها.
أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة، وحيال الفساد المستشري، ومعاناة الأهل والأساتذة، وجدت بعض المدارس الخاصة الصغيرة نفسها مضطرّة إلى إقفال أبوابها، لعجزها عن تحمّل أعباء السلسلة، فلا هي قادرةٌ على دفع رواتب موظفيها، ولا على دفع تعويضاتهم. الاستغلال والجشع وتحقيق الربح هي سيّدة الموقف، والمصيبة هي دائما من نصيب الفقير.
غدا، سيجبَر الأستاذُ الشاب المتخرّج حديثا على التوقيع على اتفاقٍ تحت الطاولة، يقضي بالتنازل عن كامل حقوقه وتعويضاته في ما لو جرى الامتناع عن تجديد عقده، أو صرفه، وهذا حاصلٌ أصلا، لكنه يعد بالتحوّل إلى عُرف وتقليد.
وغدا سأركب سيارة تاكسي مع معلّم مطرود، سيخبرني كيف جرى طرده من مدرسةٍ كبرى، فخرج منها بصحبة أولاده الثلاثة الذين تعدّت أقساطهم كل ما يكسبه في عام، ما اضطرّه إلى وضعهم في مدرسةٍ حكوميةٍ رسمية سيجعل مجرّد التلفّظ باسمها صوتَه يضعف ويتهدج. سيحكي لي عن جهاد زوجته اليومي، لتحمّل مديرها في المكتب، وعن قسط سيارة التاكسي المؤجّرة الذي لا يترك له الكثير، وسوف يغصّ المعلّم، مكسور الخاطر، مهيض الجناح، في لحظة ما، وهو يستذكر أوراقه وأقلامه ووجوه تلاميذه الصغار.
عشية الحرب اللبنانية الأهلية، كان باستطاعة الأساتذة المتخرجين حديثا أن يدفعوا من معاشهم، مصروفهم اليومي، وملابسهم، وكتبهم، وقسط سيارة، وإيجار بيت، وأن يسافروا حتى مرة في العام. كان باستطاعتهم أن يقرأوا، ويمرحوا، ويتزوّجوا، وينجبوا أطفالا، ويمارسوا التعليم في مدارسهم الرسمية، ومدارسهم الخاصة، حتى تقاعدهم، فهم كانوا من أبناء الطبقة الوسطى التي كانت تشكل الأكثرية من شعب لبنان.
اليوم، يُصرف الأستاذ في لبنان وكأنه رقمٌ عابر، قيمةٌ زائلة، يُرمى إلى طبقة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر وقد بلغ عددهم 28.5%، أو إلى جحافل العاطلين عن العمل وقد تخطى معدّل البطالة عتبة 20%، و60% في أوساط الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و26 عاما.
أهلا أهلا بالانهيار.