أن تنجو من الكراهية

17 سبتمبر 2020
تمّام عزام/ سورية (جزء من لوحة)
+ الخط -

على الرغم من اعتبار الناس سنوات الحرب وقتاً مُستنزَفاً ومسروقاً من أعمارهم، يرجون لو باستطاعتهم التخلّي عنهُ أو التخفيف من آثاره، وصولاً إلى نسيانهِ، ومواصلةِ حيواتهم كما لو أنّ حرباً لم تكن، غير أنّ لهذا موانع كثيرة، فالحرب التي يصنعها واقعٌ خَرِب، تصنعُ بدورها وعياً خاصاً يستمرُّ الإنسان بمصارعته. لكن الحرب من منظور الأدب هي مُجرّدُ حدثٍ من أحداث الحياة، وليست اقتطاعاً منها أو شأناً يمكن فصلهُ عمّا سبقهُ وعمّا يليه.

لا يتيحُ الأدب للإنسان أن ينسى، وإنّما يساعده على تفكيك أزماتهِ. تنطوي الحرب على الإحساس بالنهاية، التي تُضمِرُ بدورها بدايةً ما. يستمر الناجون بالتساؤل حيال النهايات، خصوصاً حيال الأفكار التي أصبحتْ من الماضي؛ إذ إنّ أول ما تذهب به الحروب هو القيَم القديمة، لا سيما قيم المَهزوم، وإذا كان للحرب أن تُعزّز مِن قيم أحدٍ فهي تعزّز قيم المُنتَصر، والتي تُمثّلُ في الأغلب الجبروت والخديعة.

يبحث الناجون عن قيم جديدة تصلحُ للتداول في ما بينهم كبشر، تعيدُ جمعهم إلى علاقات كانت الحرب قد نسفتها. فالكائن الاجتماعي الذي قَطَعَ صِلاتهُ مع من يحيط بهِ جرّاء الحرب، لا يستطيع الاستمرار من غير بناءِ صِلاتٍ جديدة، وعندما يُفكِّر في بناء الصِلات الجديدة في العالم الجديد الذي أعقب سنوات الحرب، سوف يَكتشف واحداً من أعمقِ آثارها.

الإحساس بالنهاية التي تُضمِرُ بدورها بدايةً ما

سيجد أنّ الحرب قد نهبتْ كامل منظومتهِ الاجتماعية أو أضعفتها حدّاً صار فيه الناجون من الحرب أُناساً شكّاكين، يَصعبُ عليهم الوثوق بالآخرين، أو بناء علاقات حبّ دون التفكير في الخيانة. بل يصعب عليهم أن يبنوا علاقات صداقة من غير حسابات الربح والخسارة، أو التفكير في إنجاب طفل إلى الوجود كي يستمر هذا النوع، إذ يعزّ على الواحد منهم أن يفكّر في البناء على أي نحو كان.

تنتصر الحرب على الناجين، عندما تصنعُ من كلّ فردٍ منهم إنساناً مُرتاباً يعيشُ على أنصاف المواقف وعلى أرباع المشاعر، يوزعُ ذاتهُ أجزاءً، فنجدهُ مُستعداً للتخلّي عن الجميع وفي الوقت ذاتهِ مُحتاجاً لاحتضان الناس جميعاً لهُ. تكرّس الحرب قيمها الجديدة في المجتمع، ما يُفسِّرُ ظهور اصطلاحات مثل لصوص الحرب أو أبطال الحرب.

ونجد أنّ الوعي يستجيب بدرجات متفاوتة بينَ شخصٍ وآخر، وفقاً لاختلاف الظروف. أمام حربٍ استمرت لعشر سنوات، يمكن فهم تفاوت القيم بين أحدٍ وآخر؛ فاللص بالنسبة لأحدهم قد يكون بطلاً بالنسبة لآخر، إذ إنّ الحرب التي حطّمت قيم أحدهم، قد بنت قيم الآخر. ويخال مراقبهما أنّهما على الرغم من استخدام اللغة ذاتها إلا أنّ كلّاً منهما يجيء من منظومة قيم، فَصَمَتْ وعيهما المشترك القديم بالواقع.

هذا لا يعني أنّ أحداً يمتلك تصوُّراً أفضل من الآخر عن العالم. لا ننسى أنّ القيم التي اندثرت كانت قد أحضرت الحرب، فيما القيم الجديدة هي نتاجها، بذلك فالحاضر ابن الماضي عبوراً بشرخِ الحرب... ليبقى الإنسان أمام اختبار واحد، وهو أن ينجو بنفسهِ - مع من يستطيع ممّن يحيطون بهِ - من الزيف ومن الكراهية. من ذاكرة الدماء والعنف، لا أن يعيد نتائجها.

تعيدُ الحرب تعريف جلّ الموضوعات التي ينشغل فيها الأدب، الصداقة والحبّ. ولربما كان الاختلاف بين الأدب والواقع هو اختلافٌ في استخدام القيم التي يضعها الأدب في تصوّرات تُحافِظ على الحد الأدنى من الشعور الإنساني بالآخر والتواصل معهُ، وذلك عبر تعزيز قيم المهزوم وإحيائها، عبر فهم ماضي الشخصيات وإدراك آلامها، وتصوير ما فقدته، وما تحاول تلمّسه للعيش في واقعٍ يُجدِّد قيمهُ أو يمسخها حرباً بعد أخرى.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون