أنصاف الحلول عربية
شهد العالم العربي تحولاً جذرياً مهما خلال العقود الماضية، من المواقف المطلقة والحلول الجذرية غير الواقعية، إلى أنصاف الحلول والتسويات المنقوصة والتحايل على التصدّي للمشكلات بالالتفاف حولها. سبقت مصر العرب إلى هذا المنحى منذ أربعين عاماً، فبعد ما جرى عام 1967، باتت لدى أنور السادات قناعة باستحالة الحل الجذري بالقضاء على إسرائيل. وأنه لن يستطيع إلقاءها في البحر. ولا يملك سوى دفعها نحو التخلي عن سيناء، عبر رفع تكلفة الاحتفاظ بها، فكان قرار الحرب، أو بالأدق "تحريك الموقف العسكري" حسب تعبيره.
وبعد سنوات، حاول ياسر عرفات حصد مكاسب على الأرض، بغض النظر عن مبادئ القضية ومقتضيات الحق الفلسطيني، فخرجت تفاهمات "أوسلو" عام 1993. وكلما مر الوقت، زاد العرب انهماكاً (والهرولة) في حلول ليست حلولاً، وإنما فقط أنصاف حلول وتسويات جزئية تقدّم ترضيات مؤقتة، تفتقد أدنى مقومات الاستمرار، ولا حتى تصلح لتطويرها إلى حلول كاملة في وقت لاحق.
وحين وقعت أحداث "11 سبتمبر" في 2001، اختار العرب أيضاً الوقوف منتصف الطريق، فلا هم استنكروا الاتهامات الأميركية بمسؤولية العرب والمسلمين عن الإرهاب، وتفريخ أجيال من المتطرّفين الإسلاميين، ورفضوا المشاركة في ما أسمتها واشنطن الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب. ولا هم اعترفوا بالمسؤولية عن الأحداث، ولو بشكل غير مباشر. ما حدث أن الحكومات العربية رفضت ربط الإرهاب بالمسلمين والعرب، ثم استجابت للضغوط الأميركية حول إجراءات الأمن والتتبع وتبادل المعلومات بكل انصياع وطوعية.
وبعد عثرات كثيرة ومآزق لم يخل منها التاريخ العربي المعاصر، توصل العرب إلى أن التحدّيات والتهديدات واحدة، والمصالح العربية بدورها واحدة أيضاً. ولذا صار من الضروري إحداث نقلة نوعية في أطر العمل العربي المشترك ومرتكزاته وآلياته. بما يعكس تلك القناعات العربية حول المصالح والتهديدات المشتركة والمصير الواحد وأهمية دور الشعوب، فخرجت أفكار وصيغ كثيرة لترجمة تلك القناعات، تجسّد بعضها مؤسسياً مثل مجلس السلم والأمن العربي، والبرلمان العربي.
وانعكس بعضها الآخر في آليات القرار العربي، فتم تعديل طريقة التصويت واتخاذ القرارات. إلا أن فعالية تلك المؤسسات والآليات ظلت شبه منعدمة، بل إن بعض مظاهر التكاتف العربي التي صارت مُلحة بسبب تكالب الأطراف غير العربية، وتوالي التهديدات الفعلية المباشرة لأمن الدول العربية واستقرارها جماعة وفرادى، ظلت مجرد أفكار وتمنيات، على الرغم من وجود اقتراحات محددة وواضحة بشأنها.
والمثال الأبرز في هذا التناقض، رفض دول عربية إقرار فكرة إنشاء قوة عربية مشتركة، على الرغم من أن تلك الدول هي الأكثر تضرّراً وتعرّضاً للتهديدات والمخاطر التي يمكن درؤها أو تحجيمها لو قُيض لتلك القوة الظهور إلى النور.
ولا يقتصر تمسّك العرب بأنصاف الحلول والخطوات الناقصة على القضايا الخارجية، أو ذات الطابع الجماعي والإقليمي. بل حتى في القضايا الداخلية والمتعلقة مباشرة بالاستقرار والسياسات الداخلية، تدير معظم الحكومات العربية شؤونها الداخلية بمنطق "خطوتان إلى الأمام.. ومثلهما إلى الخلف"، والأمثلة على ذلك كثيرة، من لبنان الذي يدور في حلقة مفرغة منذ عقود، إلى السودان وسورية والعراق ومصر والأردن.. ففي تلك الدول وغيرها، تذهب حكومات وتأتي غيرها بالشعارات نفسها عن التغيير والإصلاح واستدراك ما فات. ثم تتوقف في منتصف المشوار، وتؤول التغييرات والإصلاحات إلى النتائج المكرّرة نفسها وإعادة إنتاج الأوضاع السابقة، والتوقف عند النقطة نفسها تقريباً. فلا هي قامت بتغيير شامل، ولا هي استكملت ما بدأته الحكومات السابقة.
تُرى، هل هي خصيصة يتفرّد بها العرب عن بقية الأجناس؟ وإلا لماذا يتمسّكون طوال هذه العقود بمنهجية "أنصاف الحلول"، على الرغم من ثبوت فشلها، وأنها ليست حلولاً ولا حتى أنصافها؟ أم أنهم يدركون جيداً أنها تفاهمات شكلية، تجرّد القضايا من مبادئها بحجج وتبريرات ترفع الحرج، وتبعد المواجهة، وتحمل أعباء الحلول الحقيقية الكاملة؟