أندلسي يظهر في نيويورك

07 ابريل 2014
"لا غالب إلا الله" / قصر الحمراء
+ الخط -
عندما تمر على شارع رقم 88 في مدينة نيويورك، ستشاهد مبنىً غريب الشكل، يذكرك بمباني مدينة إشبيلية الأندلسية، وهي المباني التي اختلطت فيها ثقافة البناء القوطية بالعربية، بأقواسها المدببة في أعلاها، وكثرة نقوشها، وعرض جدرانها وارتفاع سقوفها، هي المباني التي تجعلك مبهوراً بحسن تصميمها وروعة بنائها. ينقلك هذا المبنى النيويوركي في لمحة واحدة إلى تاريخ مخزن في ذاكرتك عن الأندلس وحضارتها، إلى سنوات طوال من التاريخ، الذي ما زال يفخر به العالم، ولكن لماذا بني ذلك المعبد اليهودي على هذا الطراز في مدينة أميركية؟

كتبت الباحثة، ماريا روزا مينوكال، أجمل كتبها: جوهرة العالم، كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة التسامح خلال العصور الوسطى في إسبانيا.

ولم أجد أجمل تعليقاً مما كتبته، كلوديا رودن، من صحيفة "الوول ستريت جورنال" في تعليقها عن الكتاب حين قالت: ساحر.. قراءة مفعمة بالحيوية.. نحن ندين للسيدة، مينوكال، لأنها فتحت لنا فترة مهمة من التاريخ. 

بدأت الباحثة، مينوكال، كتابها "جوهرة العالم" بلمحة سريعة عن الصراع بين العباسيين والأمويين في المشرق العربي، وتبنت شخصية، عبد الرحمن، الداخل وسارت معه في رحلته الشاقة إلى المغرب العربي، هرباً من سيوف العباسيين، التي لم ترتوِ من دماء إخوته وأقاربه، وبقيت تبحث عنه في كل زاوية من زوايا الأرض.

وصل، عبد الرحمن، عام 755 م إلى حصن صغير خارج قرية يسميها القوط "كوردوبا"، وهناك دارت معركة بينه وبين قائد الحصن المسلم، انتصر فيها الداخل على غريمه وبدأ في بناء دولته التي غيرت وجه أوروبا مدة ستمائة عام قادمة، فقد عاش الإسلام في الأندلس أطول بثلاث مرات، مما عاشته أميركا منذ تأسيسها حتى يومنا هذا!

دعونا نترك هذا الشاب يرتب حكمه ويصارع مناوئيه وننتقل بالتاريخ إلى بداية القرن العاشر ثم نعيد النظر في هذه المدينة مرة أخرى حتى نرى، ما التغيير الذي طرأ عليها، وكيف أصبحت؟ وسأنقل هنا ما قالته الكاتبة مع بعض التصرف في الترجمة:

"كانت قرطبة مكاناً رائعاً، فيها حوالي 900 حمام عام، وعشرات الآلاف من الحوانيت، ومئات، وربما الآلاف من المساجد، وكان الماء الجاري يسقي قصورها ومنازلها، وكانت طرقها مرصوفة وشوارعها مضاءة، تحوي مكتبة الخليفة لوحدها 400 ألف كتاب، في الوقت الذي لم يكن في أكبر مكتبة في أوروبا أكثر من 400 مخطوط، مع العلم أن مكتبة الخليفة كانت واحدة من سبعين مكتبة في المدينة، بل إن فهرس مكتبة قرطبة حوى 44 مجلّداً لـ 600 ألف عنوان.

مكتبات قرطبة لم يشاهد أحد مثلها، ولم يكن أحد يحلم بوجود شيء مشابه لها في ذلك الوقت، فقامت ثقافة حول هذه المكتبات، وكان هناك 70 ناسخاً متفرغاً للقرآن فقط، وانتعشت صناعة الورق وتجليد الكتب، فمدينة "قطيفة" بالقرب من "بلنسية" كانت تعيش على صناعة الورق والنسخ والتجليد والفهرسة، وظهرت طبقة جديدة من المثقفين والمحامين والعلماء والفلاسفة والأطباء، وأصبح سوق التأليف سوقاً رائجاً.

في هذه المدينة عاش المسلمون واليهود والمسيحيون حياة لم يألفها الأوروبيون قط، فكثرت الرسائل التي يرسلها ملوك أوروبا إلى الخليفة يطلبون منه أن يتفضل بقبول أبنائهم وبناتهم للدراسة في جامعاتها، وينهلون من علومها وفنونها، ويتعلمون اللغة العربية التي كانت لغة الأدب والثقافة حينها".

أجادت الباحثة، مينوكال، سبر أغوار تاريخ الأندلس، ولكنها لم تغفل بوادر الانهيار، فتحدثت عن الصراعات بين العرب والبربر، وخلافات ملوك الطوائف، والدماء التي سالت حول عروش الأندلس بين المتنافسين للاستيلاء عليها. لم يكن تاريخ الأندلس كله شاعرياً، كما نريد أن نصنعه في مخيلاتنا، ولكنه كان يملك محصلة إيجابية، إن أسقطنا منه تلك الشوائب والآفات التي صاحبته.

لقد كان تاريخاً في مجمله تسامحياً، اختلطت فيه الأعراق والأديان، وحكمهُ القانون في أوج ذروته، وبدا تاريخاً يفخر به الجميع، حتى اليهودي الألماني الذي بنى المعبد في شارع 88 في نيويورك في القرن التاسع عشر، إحياءً لذكرى أسلافه الذين عاشوا في الأندلس.

المساهمون