أناشيد لاماثاريس

04 اغسطس 2015
لوحة للفنان الفرنسي كلود مونيه
+ الخط -
I

نظرتُ في المرآة، رأيت شخصاً يشبهني،
ضحكتُ: ما فائدة ذلك؟

نظرتُ في المرآة، رأيت شخصاً لا يشبهني،
أنكرتُه وأشحتُ بوجهي.

نظرتُ في المرآة، رأيتُ وجوهاً كثيرة
تتشابه وتتباين، كحبات البطاطا، فارتبكتُ.

نظرتُ في المرآة، رأيت امرأة تحدق بي
خلفها مرآة بها امرأة تحدّق بها
خلفها مرآة بها امرأة
خلفها مرآة . . .

نظرتُ في المرآة ... لم أر شيئاً
فاطمأنت روحي



النوافذ إن لم تكن مرايا
فما تكون إذن؟


اقرأ أيضاً: كوردٍ يُقلّمُ بالعطر أشواكَه

II


بابٌ عميق. يقف هكذا لا مُشرعاً ولا موصداً. وأنا أقف أمامه، أو ربّما
وراءه (من يدري؟)، لا بنيّة الدخول ولا بنيّة الخروج.

بابٌ عميق. لا يصله جِدار، ولا ينفصل عنه جدار. لا يحدّه من فوقه سقف،
ولا تحمله من تحته أرض.

لا الرُؤيةَ يحجُب، ولا الرؤيةَ يبيح.

لا بيتَ خَلفَهُ فنقول باب البيت. ولا فضاءَ أمامَهُ فنقول
باب السّماء.

له وجهٌ واحد، يطلّ من جهتين. وعينٌ واحدة تنظر إلى عماها
في الجهتين.

بابٌ من الخشب، روحه زجاجيّة.
بابٌ من الزجاج، قلبُه رمليّ.
بابُ من الرمل، عيناه هوائيّتان.
مصنوعٌ من موادَّ لا أسماء لها،
ومن أسماء سقطت، لفرطِ ما استُعمِلَت،
في الإهمال..

بابٌ عميق. بحثت عن قبضته فوجدتها ملقاةً في الحُلُم.
قصدتُ الحُلمَ فألفيته يسبح في نهر النسيان. تبِعتُه
فغمرني الماء، وذابت أعضائي. وقال لي: النهرُ ليس كلّه ماءً،
كما الليل ليسَ كُلّه ظُلمةً. ثمّ أعطاني مِفتاحاً
وقال: الباب لا ليُفتَحَ والباب لا ليُغلَق.
قلت: فما جدوى المفتاح؟
قال: لكي لا تنسى أنّك حارس الباب!


III


في الخشب أراكَ يا صديقي. في عروق الخشب الأكثر خفاءً والأحدّ
ذاكرةً، بسنينها المعدودة بمرور الشتاءات، وسنينها الهاربة بنبضها
المذعور من حساب الأزمنة. أرى جَدَّتَك الغابة وهي تشمّر ثوبها القرويّ
لتعبر المسافة اللامتناهية بين ورقة شجرٍ وأخرى. أرى ضحكتك
المُجَلجِلة وهي ترسم صدوعها في اللحاء الكثيف والنّسغ الشفّاف.

أيّها الخشب كُن نافذتي.

أحفِرُ في تغضُّنات الخشب بحثاً عن قطرة ماء غابرة، فأغرقُ في
الأخضر الدّاكن. أتعرّى.. كمن يلبسُ ثوباً يفيض عنه، وأصيرُ
مَحضَ اهتزاز غصنٍ طريٍّ تعتريه نسمة. أتلمّس طريقي في عتمة
الاخضرار، لا شيء هنا غير دُغلٍ تسكُنُه ممرّاته السرّية، وغيرَ
تموّجاتٍ غامضةٍ تَحمل المعاني إلى مجاهِل احتمالاتها.

أيّها الخشب كُن دليلي.

كيفَ تكمُن النارُ في الخشب، والخشبُ من شجر، والشجرُ من
ماءٍ وشمسٍ وهواء ورغبات ترابيّة؟
كيف نفسّر تلهّف الماء والهواء والتراب لتتحوّل ناراً؟
أهوَ حنينُ عناصر البدء والتكوين إلى عنصرها الأنقى والمُتَمِّم؟
فكيف نفسّر، إذن، تلهّف النار لتتحوّل إلى رمادٍ ودخان؟

أيّها الخشب كُن نارَ دفءٍ وكُن نارَ حرقٍ
ولا تُضئ غير ذاتك.

وغرقتُ أعمقَ في الوهج المُحمَرّ، عَلّي أُطاوِلُ سريرة
الضّرام وأكتسَب جنونَ الياقوت. كان لديّ القليلُ من الوقتِ
لكي أفهمَ ولكي أكون، وكثيرٌ من الوهمِ لكي
أكسِرَ الوقتَ بما لم أفهمه، وأبدّد الفهم بما لم أكنه.

وكانت تلوح لي، في غَيابة الأحمر التي تشملني، أطيافٌ
لأسلافٍ لم يُكملوا رحلة حياتهم، وأشباحٌ لأحياء يشبهون
الموتى في تعلّقهم بالقبور . استوقفتُهم واحداً واحداً، وسألتهم
عن مصائر أشواقهم، فأشاروا إليّ ...
وسألتهم في أي بحارٍ اغتسلتْ، أخيراً، أنهارهم،
فسبقوني إلى سريري، وملؤوا مخدتي بهمهمات حامضة.

هكذا يا صديقي يشدني الأحمر إلى الصلاة،
فأفتح عينيّ وأرفعهما.
ويشدني الأخضر إلى الصمت،
فأغمض عينيّ وأخفضهما.

وفي السواد اللامع الذي يصل هذا بذاك ... تَراني:
بصيصَ رعشة لا يَبين، ولا يختفي، ولا ينفَد ..

IV

لم يَعِدني أحدٌ بشيء. جمعتُ أصدافاً من شواطئ متخيَّلة وحشوتُ
بها جذعَ صفصافة. زرعتُ كمأتي في خواصر صخورٍ ملساء وأخرى
خشنة، ليلتقطها رعاةُ الأمداء الحالمون. روّضتُ رياحاً بدائية
وقُدتُها بأرسانٍ نزقة إلى حظائر مسوّرة بالبروق. ثم سكبتها في
كؤوس الكونياك. رأيتُ كثيراً من الموتى، ولم أر الموت. ودنوتُ
حتى لامستْ شفتاي كلَّ قطرة ندى جافة. وبكيتُ من الغبطة بسبب
أناقة عشبة. بكيتُ حتى ما عادت عيني تعرف أهو دمعُها هذا
أم بصرُها. ليلٌ مديد كان بانتظاري عند انتهاء كل رحلة، وعند
ابتدائها. وسلكتُ طُرقاً عديدة، كي لا أصل.

أمِن غيابٍ كثيف صُنعتْ هذه الجهات،
أم من رقىً وتعاويذ؟

زمنٌ ضالّ يدور بساقيه المشلولتين ليشعل مصابيح العالَم. وحين
تنتشر الإضاءة السريّة في الأوصال الأكثر عتمةً ... تظهرين

في أمواج عينيك تغرق أسماك ودلافين. وفي أعماقهما تتراقص
أعشاب وحشية ويتفجر مرجان. في دفء صدركِ أعشاشٌ
من قشٍ لاحم، تفقّس بيوضُها عن عصافير بلون الفضاء وحجم
الصحو، وتُشرِع بنقر جوعها في البرودة السميكة. وحين كنتِ
تمسحين على ظهري بيديك الجاهلتين، كانت خيولٌ جامحة بمخالب
وأنياب ترمح من أقصى وجودي، وتفعم الجسد بالصهيل.


أيتها المرأة اللامرأة، أيتها المرأة اللارجل! يا شبقاً في هيأة
معبد وثنيّ. من أين أدخل أرضك المحروثة بغيظ السماء؟
كيف ألمّني لأصبح محض ابتسامتك الماجنة،
أو نتوءاً خَفِراً على ركبتك المتمرسة؟

أيتها المجنونة المسنونة الساقطة المتعالية، المخلوقة من
وقود جحيمي ذاته، سوقيني كما يساق الكبش إلى الفداء، وكما
يساق اللهب الظمآن إلى أجنحة فراشاته.

وحين تدخنين أصابعي واحدة بعد الأخرى، لا تنفثي
الدخان إلا كما تنفث الساحرة لعنتها أو مباركتها.

أريد أن آكلك وتأكليني، قضمةً قضمةً، بنهمٍ ولذة،
حتى لا يبقى منّا أثرٌ يدلّ علينا، سوى لهاثنا الذي يهز
الأشجار، الأشجار التي تثير العواصف.


احتجتُ موتاً كثيراً كي أحبك. موتاً يابساً كشجيرة ورد
ميتة. موتاً حائراً كصرخة تنبعث من مستشفى للمجانين.
موتاً ساذجاً يساومني، وموتاً خبيثاً يتسلل، على غفلة،
إلى رئتيّ، كما النفَس.

كي أحبك احتجتُ موتاً حياً، فقطفت ثماره الهشة من أعضاء
امتُصّتْ حتى تلاشت، وتركتُ وردته الحمراء تذبل،
وحيدة ومنسية، في آنية النعاس.

لكي أحبكِ كان عليّ أن أسحب الموت من ياقته
وأقول له: يا صديقي!

لكنك مزعج أيها الموت، وكثير الثغاء.
كم أنت مضحك بعباءتك الفضفاضة
وجمجمتك الذاوية
ومنجلك المسلول!

ولكي أحبكِ قدمتُ للموت نصيحة حياتي:
كن يقيناً كأنه الشك، أيها الموت،
وشكّاً كأنه حجة الغائب.

ثم إنك، أيها الموت، تخرج من المعركة خاسراً،
وتتركني وحدي،
أعزل من أي سلاح،
أواجه نفسي!

المساهمون