بعد نحو عامين أو ثلاثة من استقرار أم كلثوم في القاهرة، كتب عنها الشيخ الأزهري البارز مصطفى عبد الرازق، قائلاً: "وإني كلما ذكرت الشيوخ ذكرت أم كلثوم أميرة الغناء في وادي النيل، فإن لها هي أيضاً شيوخاً يحفون بها في عمائمهم المرفوعة، وأكمامهم المهفهفة، وقفاطينهم الحريرية الزاهية اللامعة، وجببهم الطويلة الواسعة.. عن اليمين شيخان وعن اليسار شيخان... في ثياب حشمة تميل إلى السواد، وفي مظهر بساطة، كان على سجيته يوم أن كانت الفتاة القروية حديثة عهد بسذاجة الريف، ثم أصبح تأنقاً حضرياً مقدراً تقديراً.. تظهر أم كلثوم بادئ الأمر رزينة ساكنة تشدو بصوتها الحلو شدواً ليّناً، من غير أن يتحرك طرف من أطرافها إلا هزة لطيفة تنبض بها رجلها اليسرى أحياناً، ثم ينبعث الطرب في هيكلها كله...".
إذاً، كان غناء عامين أو ثلاثة في القاهرة كافياً، ليمتلك الشيخ مصطفى عبد الرازق تلك النظرة عن أم كلثوم: فتاة يحيط بها المشايخ، وتظهر في هيئة أقرب إلى هيئات من يذكر بالآخرة لا بالدنيا. صحيح أن هذه الصورة تغيرت، ولا سيما بعد أن قبلت أم كلثوم وأبوها الاستعانة بالتخت الموسيقي بعد لأي ومقاومة، لكن أثر هذه البيئة المحيطة لم يفارق غناء كوكب الشرق خلال مسيرتها الفنية الكبيرة والممتدة على نصف قرن؛ فالتلاوة، والإنشاد الديني، وإحياء الموالد، انعكست كلها على غناء أم كلثوم، فقدمت هذا اللون الخالد من "الغناء المُقرأن".
أبوها هو الشيخ إبراهيم البلتاجي، مؤذن القرية ومنشدها، وكان هو وأخوها الشيخ خالد، ضمن المرددين خلفها. وكانت بطاقة تعريفها مكتوباً فيها: "أم كلثوم إبراهيم.. مقرئة السيرة النبوية"، وأول أساتذتها الشيخ أبو العلا محمد، المنحاز دائماً للغة الفصيحة، والقصائد القوية من عيون الشعر، ويوازيه في العناية بها الشيخ زكريا أحمد، الذي بدأ حياته أزهرياً قارئاً للقرآن، ثم مردداً في بطانة الشيخ علي محمود. وبعد الاستقرار في القاهرة، اتسعت الدائرة المشيخية حول أم كلثوم، فنالت رعاية مصطفى عبد الرازق، بمكانته العلمية والسياسية الكبيرة، وعرفت محمد القصبجي، ابن الشيخ الملحن علي القصبجي، ثم عرفت رياض السنباطي، ابن الشيخ أحمد السنباطي.
كما توثقت علاقة أم كلثوم بكبار الشيوخ والقرّاء في عصرها، ومنهم محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي ومصطفى إسماعيل. ويلحظ من يزور متحف أم كلثوم ويتفقد مقتنياتها من الأسطوانات، أن تسجيلات الشيخ علي محمود حظيت بمكانة كبيرة لدى سيدة الغناء، ونقل بعض المقربين من أحمد رامي أن أم كلثوم كانت أحياناً تقلد الشيخ علي في مجالس خاصة، فتجلس جلسة الشيوخ وترفع كفيها إلى جوار فمها وتطلق صوتها بألحان شيخ المنشدين وقصائده.
نشأة أم كلثوم في الأجواء المشيخية، وإحاطة الشيوخ بها، ورعايتهم لها، كانت لها أكبر الأثر في غنائها وطرائق أدائها، بدءاً من حسن لفظها للحرف والكلمة، ومروراً بتوظيفها لسرعة ذبذبات صوتها، وإتيانها بالعرب الصوتية في أماكنها، وانتفاء التكرار الحرفي من إعاداتها، وانتهاءً بأدائها الباهر للقفلات الحراقة بقوة وإحكام نادرين. كل هذا يمكن أن نسميه "غناء المشايخ" أو "الغناء المقرأن" الذي يظهر فيه أثر فن التلاوة والإنشاد الديني.
اقــرأ أيضاً
كل ما أرى
غنت أم كلثوم من ألحان الشيخ أبو العلا محمد تسعة ألحان، كلها من قالب القصيدة، وهو القالب الذي آثره أبو العلا وأعطاه جهده وحياته. كان الرجل مرحلة وسطى بين الحقبة الحامولية وحقبة التحديث بزعامة سيد درويش، واتسمت كل ألحانه بالصرامة والهيبة، وعند الاستماع إليها بصوت أم كلثوم تتجلى "القرأنة" في كل مواضعها، وبمجرد انطلاق البيت الأول، يشعر المستمع على الفور أنه أمام شيخ قارئ مهيب، يتسم صوته بالعرض والقوة والجلال.
من الأمثلة الصارخة، نذكر أداء أم كلثوم لقصائد: "أمانا أيها القمر المطل"، و"أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا" و"وحقك أنت المنى والطلب" و"أكذب فيك نفسي في كل ما أرى". رعاية الشيخ أبو العلا لأم كلثوم، ونقل خبراته الكبيرة لصاحبة الصوت المعجز، كان له أثره على طول المسيرة الفنية لكوكب الشرق، التي اهتمت بغناء روائع الشعر، ومثّل قالب القصيدة 26% من مجمل أعمالها، وفقاً لموسوعة أعلام الموسيقى العربية.
نبويات السنباطي
فتحت الألحان الدينية التي وضعها رياض السنباطي، الباب واسعاً أمام أم كلثوم لإظهار قدرتها الفائقة في قرأنة الغناء، واستعراض الأداء المشيخي المهيب، فالسنباطي رجل تأسيس، يحرص كثيراً على متانة بنائه اللحني، باللوازم المنطقية، والمسار المقنع، والقفلة الحراقة التي لا يملك الجمهور معها إلا الإبداء الصاخب للإعجاب. وغناء أم كلثوم المقرأن يظهر بجلاء في أدائها لكل بيت من أبيات "نهج البردة"، ويمكن تذكير المستمع بقفلاتها المشيخية في "أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم"، أو "فامتلأت أسماع مكة من قدسية النغم"، أو الارتفاع إلى درجات صوتية حادّة جداً مع لفظي الجلالة في كل من "وبغية الله من خلق ومن نسم" و"وقدرة الله فوق الشك والتهم".
ولا نظن أن أحداً من المهتمين بفن السيدة يمكن أن ينسى ارتجالاتها اللافتة لبيت شوقي "حتى بلغت سماءً لا يطار لها.. على جناح ولا يُسعى على قدم"، في محفل سينما دمشق التاريخي يوم 15 سبتمبر عام 1955. لقد مكثت أم كلثوم نحو ربع ساعة، ترتجل هذا البيت، معتصرة كل ما أوتيت خبرة مشيخية، وكانت في أدائها كأنها ضمت إلى حنجرتها صوت الشيخين مصطفى إسماعيل وطه الفشني.
وفي أكثر من موضع من الارتجال، لم يملك الجمهور أي قدرة على السكون والصمت، فانفجر مقاطعاً بتصفيق حادّ، بعد أن أوصله هذا اللون من الأداء إلى ذروة طربية لا تدرك.. وما يقال في نهج البردة، يمكن أن نرصد أمثاله في "ولد الهدى" و"سلوا قلبي" و"إلى عرفات الله". وابتهالات السيدة في أواخر "رباعيات الخيام" عند مقطع "يا عالم الأسرار علم اليقين".
نظرة
أداء أم كلثوم المشيخي، وغناؤها المقرأن، يتسعان باتساع رحلتها الفنية طولاً وعرضاً، ولا يقتصر على أعمالها من قالب القصيدة، ولا على ما قدمته من أعمال ذات طابع ديني؛ فحتى غناؤها العاطفي أو الوطني، تؤديه بهذه الطريقة الفذة، ومن وقفاتها التاريخية الصارخة بالغناء المقرأن نتذكر ارتجالاتها على مسرح محمد الخامس، في المغرب، حيث استمرت نحو 45 دقيقة مع بيت بيرم "نظرة وكنت أحسبها سلام.. وتمر أوام"، وقد وصلتنا صوتياً كاملة، ووصلنا منها متلفزاً نحو تسع دقائق، تمتلئ بالتجويد وأداء الشيوخ من القرّاء والمنشدين. ومن اللحظات البارزة في هذا المحفل تلك "الغنة" اللذيذة المطربة التي صنعتها أم كلثوم في كلمة "نظرة".
من الأعمال التي تمثل شاهداً شديد الوضوح على قرأنة أم كلثوم للغناء، مونولوج "غلبت أصالح" من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي، وهو عمل ملأته أم كلثوم بغناء مشيخي معجز، من أوله إلى آخره، ونذكر منه أداءها للفظة "ضنين" عندما أعادتها مع مدّ طويل للياء مصحوب باهتزازات سريعة، بالرغم من أنها تؤديها من منطقة صوتية ليست حادّة، إلى أن تصل بها إلى أول البيت لتعيده مرة أخرى "وأنا اللي أخلصت في ودي"، فيكاد الجمهور يجنّ طرباً ويقاطعها بتصفيق حادّ.
أداء أم كلثوم للفظة "ضنين" في مونولوغ "غلبت أصالح"، هو من معجزات الأداء الصوتي في تاريخ الغناء العربي كله.. وهو أداء لا يقدر عليه إلا المتمرسون الكبار من شيوخ التلاوة والإنشاد، ولا ريب أن ما فعلته أم كلثوم في هذه الكلمة يذكرنا بما كان يفعله الشيخ علي محمود من تصرفات مبهرة خلال إنشاده للقصائد والتواشيح. وصف فيكتور سحاب أداء أم كلثوم للفظة "ضنين" بأنه "تغريد يستمر 23 ثانية، من أعظم ما يمكن أن تسمع أذن من غناء".
بالرغم من العوامل الكثيرة التي اجتمعت لأم كلثوم، حتى نالت مكانتها التي لم يشاركها فيها أحد، إلا أن العاملين الأساسيين، والسببين الرئيسيين لنيل هذه المكانة، هما: صوتها بقوته ونقائه وسرعة ذبذباته.. وأداؤها المشيخي المقرأن الذي انفردت به بين المطربات جميعاً، سواء في بداية انطلاقتها مطلع العشرينيات، أو في أوج نضجها في الأربعينيات والخمسينيات، ثم استمرارها على هذا النمط الصعب مع تقدم العمر وتراجع بريق الصوت. وأعجب من كل هذا، استمرار انفرادها بهذا الأداء رغم مرور أكثر من أربعة عقود على رحيلها.
أبوها هو الشيخ إبراهيم البلتاجي، مؤذن القرية ومنشدها، وكان هو وأخوها الشيخ خالد، ضمن المرددين خلفها. وكانت بطاقة تعريفها مكتوباً فيها: "أم كلثوم إبراهيم.. مقرئة السيرة النبوية"، وأول أساتذتها الشيخ أبو العلا محمد، المنحاز دائماً للغة الفصيحة، والقصائد القوية من عيون الشعر، ويوازيه في العناية بها الشيخ زكريا أحمد، الذي بدأ حياته أزهرياً قارئاً للقرآن، ثم مردداً في بطانة الشيخ علي محمود. وبعد الاستقرار في القاهرة، اتسعت الدائرة المشيخية حول أم كلثوم، فنالت رعاية مصطفى عبد الرازق، بمكانته العلمية والسياسية الكبيرة، وعرفت محمد القصبجي، ابن الشيخ الملحن علي القصبجي، ثم عرفت رياض السنباطي، ابن الشيخ أحمد السنباطي.
كما توثقت علاقة أم كلثوم بكبار الشيوخ والقرّاء في عصرها، ومنهم محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي ومصطفى إسماعيل. ويلحظ من يزور متحف أم كلثوم ويتفقد مقتنياتها من الأسطوانات، أن تسجيلات الشيخ علي محمود حظيت بمكانة كبيرة لدى سيدة الغناء، ونقل بعض المقربين من أحمد رامي أن أم كلثوم كانت أحياناً تقلد الشيخ علي في مجالس خاصة، فتجلس جلسة الشيوخ وترفع كفيها إلى جوار فمها وتطلق صوتها بألحان شيخ المنشدين وقصائده.
نشأة أم كلثوم في الأجواء المشيخية، وإحاطة الشيوخ بها، ورعايتهم لها، كانت لها أكبر الأثر في غنائها وطرائق أدائها، بدءاً من حسن لفظها للحرف والكلمة، ومروراً بتوظيفها لسرعة ذبذبات صوتها، وإتيانها بالعرب الصوتية في أماكنها، وانتفاء التكرار الحرفي من إعاداتها، وانتهاءً بأدائها الباهر للقفلات الحراقة بقوة وإحكام نادرين. كل هذا يمكن أن نسميه "غناء المشايخ" أو "الغناء المقرأن" الذي يظهر فيه أثر فن التلاوة والإنشاد الديني.
كل ما أرى
غنت أم كلثوم من ألحان الشيخ أبو العلا محمد تسعة ألحان، كلها من قالب القصيدة، وهو القالب الذي آثره أبو العلا وأعطاه جهده وحياته. كان الرجل مرحلة وسطى بين الحقبة الحامولية وحقبة التحديث بزعامة سيد درويش، واتسمت كل ألحانه بالصرامة والهيبة، وعند الاستماع إليها بصوت أم كلثوم تتجلى "القرأنة" في كل مواضعها، وبمجرد انطلاق البيت الأول، يشعر المستمع على الفور أنه أمام شيخ قارئ مهيب، يتسم صوته بالعرض والقوة والجلال.
من الأمثلة الصارخة، نذكر أداء أم كلثوم لقصائد: "أمانا أيها القمر المطل"، و"أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا" و"وحقك أنت المنى والطلب" و"أكذب فيك نفسي في كل ما أرى". رعاية الشيخ أبو العلا لأم كلثوم، ونقل خبراته الكبيرة لصاحبة الصوت المعجز، كان له أثره على طول المسيرة الفنية لكوكب الشرق، التي اهتمت بغناء روائع الشعر، ومثّل قالب القصيدة 26% من مجمل أعمالها، وفقاً لموسوعة أعلام الموسيقى العربية.
نبويات السنباطي
فتحت الألحان الدينية التي وضعها رياض السنباطي، الباب واسعاً أمام أم كلثوم لإظهار قدرتها الفائقة في قرأنة الغناء، واستعراض الأداء المشيخي المهيب، فالسنباطي رجل تأسيس، يحرص كثيراً على متانة بنائه اللحني، باللوازم المنطقية، والمسار المقنع، والقفلة الحراقة التي لا يملك الجمهور معها إلا الإبداء الصاخب للإعجاب. وغناء أم كلثوم المقرأن يظهر بجلاء في أدائها لكل بيت من أبيات "نهج البردة"، ويمكن تذكير المستمع بقفلاتها المشيخية في "أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم"، أو "فامتلأت أسماع مكة من قدسية النغم"، أو الارتفاع إلى درجات صوتية حادّة جداً مع لفظي الجلالة في كل من "وبغية الله من خلق ومن نسم" و"وقدرة الله فوق الشك والتهم".
ولا نظن أن أحداً من المهتمين بفن السيدة يمكن أن ينسى ارتجالاتها اللافتة لبيت شوقي "حتى بلغت سماءً لا يطار لها.. على جناح ولا يُسعى على قدم"، في محفل سينما دمشق التاريخي يوم 15 سبتمبر عام 1955. لقد مكثت أم كلثوم نحو ربع ساعة، ترتجل هذا البيت، معتصرة كل ما أوتيت خبرة مشيخية، وكانت في أدائها كأنها ضمت إلى حنجرتها صوت الشيخين مصطفى إسماعيل وطه الفشني.
وفي أكثر من موضع من الارتجال، لم يملك الجمهور أي قدرة على السكون والصمت، فانفجر مقاطعاً بتصفيق حادّ، بعد أن أوصله هذا اللون من الأداء إلى ذروة طربية لا تدرك.. وما يقال في نهج البردة، يمكن أن نرصد أمثاله في "ولد الهدى" و"سلوا قلبي" و"إلى عرفات الله". وابتهالات السيدة في أواخر "رباعيات الخيام" عند مقطع "يا عالم الأسرار علم اليقين".
نظرة
أداء أم كلثوم المشيخي، وغناؤها المقرأن، يتسعان باتساع رحلتها الفنية طولاً وعرضاً، ولا يقتصر على أعمالها من قالب القصيدة، ولا على ما قدمته من أعمال ذات طابع ديني؛ فحتى غناؤها العاطفي أو الوطني، تؤديه بهذه الطريقة الفذة، ومن وقفاتها التاريخية الصارخة بالغناء المقرأن نتذكر ارتجالاتها على مسرح محمد الخامس، في المغرب، حيث استمرت نحو 45 دقيقة مع بيت بيرم "نظرة وكنت أحسبها سلام.. وتمر أوام"، وقد وصلتنا صوتياً كاملة، ووصلنا منها متلفزاً نحو تسع دقائق، تمتلئ بالتجويد وأداء الشيوخ من القرّاء والمنشدين. ومن اللحظات البارزة في هذا المحفل تلك "الغنة" اللذيذة المطربة التي صنعتها أم كلثوم في كلمة "نظرة".
من الأعمال التي تمثل شاهداً شديد الوضوح على قرأنة أم كلثوم للغناء، مونولوج "غلبت أصالح" من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي، وهو عمل ملأته أم كلثوم بغناء مشيخي معجز، من أوله إلى آخره، ونذكر منه أداءها للفظة "ضنين" عندما أعادتها مع مدّ طويل للياء مصحوب باهتزازات سريعة، بالرغم من أنها تؤديها من منطقة صوتية ليست حادّة، إلى أن تصل بها إلى أول البيت لتعيده مرة أخرى "وأنا اللي أخلصت في ودي"، فيكاد الجمهور يجنّ طرباً ويقاطعها بتصفيق حادّ.
أداء أم كلثوم للفظة "ضنين" في مونولوغ "غلبت أصالح"، هو من معجزات الأداء الصوتي في تاريخ الغناء العربي كله.. وهو أداء لا يقدر عليه إلا المتمرسون الكبار من شيوخ التلاوة والإنشاد، ولا ريب أن ما فعلته أم كلثوم في هذه الكلمة يذكرنا بما كان يفعله الشيخ علي محمود من تصرفات مبهرة خلال إنشاده للقصائد والتواشيح. وصف فيكتور سحاب أداء أم كلثوم للفظة "ضنين" بأنه "تغريد يستمر 23 ثانية، من أعظم ما يمكن أن تسمع أذن من غناء".
بالرغم من العوامل الكثيرة التي اجتمعت لأم كلثوم، حتى نالت مكانتها التي لم يشاركها فيها أحد، إلا أن العاملين الأساسيين، والسببين الرئيسيين لنيل هذه المكانة، هما: صوتها بقوته ونقائه وسرعة ذبذباته.. وأداؤها المشيخي المقرأن الذي انفردت به بين المطربات جميعاً، سواء في بداية انطلاقتها مطلع العشرينيات، أو في أوج نضجها في الأربعينيات والخمسينيات، ثم استمرارها على هذا النمط الصعب مع تقدم العمر وتراجع بريق الصوت. وأعجب من كل هذا، استمرار انفرادها بهذا الأداء رغم مرور أكثر من أربعة عقود على رحيلها.