لطالما كان يستوقفنا ذلك الصوت، ويضحكنا، حين نستمع إلى حفل لأم كلثوم، ويأتي من بعيد يقول: "عظمة على عظمة يا ست". باتت هذه العبارة أشبه بـ إفّيه يُقال في كثير من المواضع والأحاديث الطريفة.
لاحقاً، عرفنا صاحب هذه المقولة، العم سعيد الطحان، ونُشرت صوره وقصته في كل مكان. حين كان يروقه مقطع غنّته الست، كان يقول لها: "تاني يا ست. أنا جايلك من طنطنا". كان يأتي الرجل من هناك خصيصاً ليحضر حفل أم كلثوم. كثيرون كانوا يأتون من آخر الدنيا إليها، ولا يكتفون بالاستماع إليها عبر الراديو فقط.
رحلت أم كلثوم، وانتهت تلك الحقبة، لكننا ما زلنا نستمع إلى أغانيها حتى الآن. لكن ماذا لو أراد أحدنا أن يعود بالزمن ويجد نفسه جالساً في الأزبكية مثلاً، عام 1960، ويشاهد حفل "لسه فاكر"؟ ما من آلةِ زمن تُعيدنا إلى هناك، لكن لا يزال الأمر ممكناً، إلى حدّ ما.
في "ساقية الصاوي" القاهرية، تُقام بشكل دوري عروض بعنوان "أم كلثوم تعود من جديد"؛ إذ يجد الجمهور نفسه أمام عرائس تجسّد أم كلثوم وفرقتها، ويستمعون إلى أغانيها. في السابع من الشهر الجاري، تعود أم كلثوم من جديد، إلى مسرح الساقية للعرائس، بأغنيتي "سيرة الحب" و"لسه فاكر".
استمرارية عروض "أم كلثوم تعود من جديد"، والحضور الذي تشهده دائماً، يُشيران بالدرجة الأولى إلى توق الجماهير الدائم ليس إلى الاستماع إلى أم كلثوم وحسب، فيمكنهم فعل ذلك من أي مكانٍ في العالم؛ لكن المسألة تتعلّق بالرغبة في حضور حفل لها، وكون آلة الزمن تلك ليست موجودة، فالعرائس تبدو خياراً جيداً كونه يتيح للمستمع أن يرى أيضاً، ويشبع عينه قليلاً؛ إذ يشعر أنه يشاهد الست، وفرقتها، محمد القصبجي مثلاً وهو خلفها على العود، وإن كانوا مجرّد عرائس، أو دُمى.
في السابع من يناير/كانون الثاني لعام 1960، غنّت أم كلثوم "لسه فاكر" لأول مرة في دار "سينما أوبرا" القاهرية. الأغنية من كلمات عبد الفتاح مصطفى، وألحان رياض السنباطي. في ذلك العرض، كان معها من الفرقة كل من محمد القصبجي، ومحمد عبد صالح على القانون، ومحمد الحفناوي على الكمان.. إلخ. حضر ذلك الحفل، إلى جانب الجمهور المصري، جمهور عربي، جاء من الأردن والمغرب والكويت، وغيرها من البلدان العربية.
في الثالث من ديسمبر/كانون الأول من عام 1964، على مسرح "قصر النيل"، غنّت أم كلثوم للمرة الأولى "سيرة الحب". كتب كلماتها مرسي جميل عزيز، ولحّنها بليغ حمدي. وكان تعاونه مع أم كلثوم قد بدأ مع أغنية "حب إيه" عام 1960. كان ذلك الحفل واحداً من الحفلات الطويلة للست؛ إذ استمرت بالأغنية ساعةً ونصف الساعة، مع أن معظم أغانيها، عادةً، تتراوح بين خمسين وستين دقيقة.
في إحدى الصحف، نُشر الخبر كالآتي: "كوكب الشرق السيدة أم كلثوم/ تفتتح سيدة الغناء العربي موسمها لعام 1964/ 1965 مساء الخميس 3 ديسمبر/كانون الأول سنة 1964 بالأغنيتين التاليتين: 1 - عصيّ الدمع 2 - خدني الحب (هي نفسها سيرة الحب)". وهكذا، يلتقي الجمهور بعد أيام الست، ليستمع إلى "لسه فاكر" و"سيرة الحب"، في محاولة لاستعادة مشهد بصري لطالما تمنّى لو أنّه عاصره.