07 نوفمبر 2024
أم فواز.. سيدة الحب الخالص
دائماً كنت أود الكتابة عنها، ودائماً كنت أفشل، فأؤجل المهمة حتى حين، مطمئنةً إلى أن العمر أمامنا طويل، وأن الكلمات لن تنتهي، وأن حبي لها وحبها لي لا ينفد ولو نفد البحر، وأن كل يوم إضافي بالقرب منها سيزيد من معرفتي بها، على الرغم من أنها كانت دائماً الواضحة الصريحة، منذ الوهلة الأولى حتى الوهلة الأخيرة! لم أكن منتبهةً إلى أنني أراهن على وقتٍ لا يمكن المراهنة عليه، وأن خصمي في الطرف الآخر من معادلة التأجيل هو الموت، بكل جبروته الذي لا يردّ، ومفاجآته التي لا يمكن توقعها، وإن كنا نعرف أنه سيدركنا، ولو كنا في بروجٍ مشيدة، فلا ندري بأي أرض نموت.
أردت أن أكتب مقالةً أو قصيدةً عن سيدة عادية بالمقاييس العادية، لكنها ليست كذلك بمقاييسي الخاصة، فأجرؤ على حملها لها، وقراءتها أمامها بصوت عالٍ، وأنا أختلس النظر لابتسامتها الطفولية المرحة، على الرغم من أعوامها التي تجاوزت الستين بقليل.. لكنني فشلت.
الآن، أدركت أنني فشلت للأبد في اقتناص تلك اللحظة التي كنت أتوقع أنها ستكون إحدى أجمل لحظات العمر.
كانت أم فواز تنتمي لقبيلة النساء المأخوذات بحب البشر، على اختلافهم وخلافاتهم، فلا يكاد يتبيّن من يعرفها عن قرب إن كانت بشراً أم ملاكاً بغمازتين جميلتين غارقتين في أسى بعيد.
أقول إنها عادية بالمقاييس العادية، لأنها السيدة صبحى الشمري، جارتنا 17 عاماً، وصديقة والدتي رحمها الله، التي رحلت عن هذه الدنيا في أثناء سفري، مخلفة وراءها عطر الذكريات اليومية، وشواهد الحب المعتاد. وأقول إنها ليست عاديةً بمقاييسي الخاصة، لأنها أعظم من عرفت من النساء في حياتي. امرأة مخلوقة من مادة الحب الخالص، ولا أظن أنني سأقابل امرأةً مثلها، في ما بقي لي من عمر.
كانت أم فواز شفّافة الروح، إلى الدرجة التي كانت تشعر فيها بأحوالي الخفية على البعد، فتعرف أنني حزينةٌ أو سعيدةٌ أو منزعجة أو راضية.. وأنا بعيدةٌ عنها بمجرد الحدس النابع من دلالات القلب وحسب.
لم تكن أم فواز متعلمةً، إلا أن الوعي الذي تملكه كان مصدراً مهماً من مصادر ثقافتي، ونبعاً ثرّاً لقيم ومبادئ كثيرة تعلمتها منها.
وما أنا متأكدة منه الآن أنها لم تجرح شعور أحدٍ في حياتها كلها، وكانت لها أدواتها في مواجهة مصاعب الحياة: الإيمان، الابتسامة، الصبر.. وكفى، ثم إنها نجحت في كل اختبار تعرّضت له لاستدراجها إلى ثرثرة النساء المعتادة في الغيبة والغياب نجاحاً باهراً، ذلك أنها أكبر وأسمى من كل معتاد.. وهذا في مقاييس النساء المعتادات على تقاليد العيش في مجتمعاتهن التقليدية الخاصة جد عظيم. كانت تجتهد دائماً، بصبرها الأسطوري، في تلافي كل ما يمكن أن يحيل إلى زعلٍ أو غضب. ولا يمكن تخيّل ما هو أجمل من ابتسامتها، عندما أقرأ لها قصائد شعبية قديمة، فأجدها تسبقني إلى ترديد بعض الأبيات بفرح غامر، وكأنها تحتفي بذاكرتها التي لم تستجب لضغوط ما حولها، ثم تستوقفني لتحكي لي متى سمعت تلك القصيدة أول مرة وكيف حفظتها! ولا غرابة.. فقد كانت تملك ذاكرةً عجيبةً لا تحتفظ إلا بالجميل النبيل من القصائد والمواقف والأسماء والحكايات، وتنسى كل سيئ وقبيح، فلا يعود له وجود أبداً. وفي كل مرةٍ، كنت أتعجب فيها من ذاكرتها الأنيقة الحافلة بالآيات والقصائد والحنين والطفولة والخزامى والأحرف التي تعلمت كتابتها أخيراً، تبتسم في وجهي بفرح، قبل أن تسدل برقعها المضمخ بدهن العود وشميم الحناء دائماً على وجهها حياءً.
عندما تهمس أم فواز أمامي بندائها المحبب: "يا يمّه يا سعدية"، أعرف أنها على وشك الانهمار رذاذاً سرياً بين يديّ، فتحكي وأحكي وتبكي وأبكي.. ونمضي.
رحلت أم فواز من دون أن أتمكّن من وداعها، لكنها ستظل في قلبي بجانب والدتي، نبتة خضراء لا تموت، وابتسامة مضيئة لا تنطفئ.