حصار السلطات الأميركية للعرب الأميركيين، ناشطين ومفكرين، وتجريد بعضهم من حق حرية التعبير والفكر، كما تفعل مع تجريم من ينتقد دولة الاحتلال ويدعو إلى مقاطعتها، يحمل أكثر من رسالة مبطنة نيابة عن الاحتلال.
فمن المتوقع أن يسدل الستار في الـ25 من الشهر الجاري على قضية الفلسطينية رسمية عودة (69 عاما). فبعد العيش لأكثر من عشرين عاما في الولايات المتحدة، والحصول على الجنسية الأميركية قبل عشر سنوات، ستترك المناضلة الفلسطينية الولايات المتحدة مضطرة بعد التنازل عن الجنسية الأميركية. وفي الـ25 من الشهر الحالي سيصدر قاضي محكمة فيدرالية قراره بقبول الصفقة التي توصلت إليها مع الادعاء الأميركي، والتي تقر فيها بـ"ذنبها" وتترك الولايات المتحدة دون قضاء فترة سجن طالب الادعاء أن تكون لخمس سنوات على الأقل، كما دون دفع غرامة أو غرامة عالية.
إلا أن فسحة الأمل التي لاحت بعد السماح بإعادة محاكمتها والأخذ بشهادة الطبيبة المختصة اختفت، عندما اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزير عدل يميني متطرف وهو جيف سيشينز. وكان إصرار السلطات الأميركية على ملاحقة عودة بكل الطرق الممكنة واضحا، بحسب فريق دفاعها، عندما تحولت قضيتها من قضية هجرة إلى قضية "إرهاب". وما رجح كفة تلك الشكوك، هو ملاحقتها من قبل مكتب الأمن القومي بدلا من مكتب الهجرة.
وفي العادة يحتاج المتقدم للحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة أو للحصول على الجنسية الأميركية إلى الإجابة عن أسئلة حول ما إذا كان الشخص قد سجن أو جرّم في الماضي، وهو ما لم تقم به عودة. تدعي السلطات الأميركية بأن ذلك كان متعمدا. لكن دفاعها يرى أن رسمية عودة، التي تعرضت لتعذيب وتحرش جنسي وتهديد بالاغتصاب على يد محققين إسرائيليين، كانت تعيش تحت أعراض الصدمة المزمنة لما مرت به، وأنه يجب قراءة إجابتها عن تلك الأسئلة في هذا السياق.
ولم يشفع لعودة أن طبيبة نفسية أميركية مختصة بالموضوع ومعروفة شخّصتها بتلك الإصابة. بل رفض القاضي في محاكمتها الأولى الاستماع إلى تلك الشهادات وأخذها بأي شكل من الأشكال بعين الاعتبار، في المقابل سمح لمكتب المدعي العام باستخدام المعلومات حول محاكمتها وسجنها في فلسطين، ومحاولة تصويرها كإرهابية لا يمكن الثقة بها، وأن "إخفاءها" المعلومات كان متعمدا، وعليه لا يمكن الثقة بها.
ليست عودة أول أو آخر من يلاحق في الولايات المتحدة من رموز فلسطينية أو داعمين علنا للقضية الفلسطينية ومعارضين لسياسات الاحتلال، وخاصة أنها تدعم "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" على إسرائيل، والمعروفة بـ(BDS). وكانت عدة حكومات محلية في الولايات المختلفة، ناهيك عن الحكومة الفيدرالية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، قد أصدرت عدة مراسيم رئاسية، وبعضها مرر قوانين متعلقة بمحاربة دعم المقاطعة، وتقضي مثلا بقطع التمويل الرسمي عن هذه الجمعية أو تلك. وتعد رسمية عودة من القيادات البارزة بين أبناء الجالية العربية والفلسطينية في شيكاغو حيث كانت قد انضمت إلى جمعية "شبكة العمل العربية - الأميركية" في شيكاغو عام 2005 ومن ثم أصبحت مديرة مشاركة لتلك الجمعية التي تقدم خدمات اجتماعية وتوعية وتمكين للمرأة ودورات تدريبية في منطقتها وخاصة للنساء العربيات والمهاجرات والأقليات عامة.
ولعل أشهر ملاحقات العقود الأخيرة المتعلقة بداعمي القضية الفلسطينية أو رموز من أصول فلسطينية كانت ضد المفكر والأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد، والتي وصلت إلى درجة التشكيك بفلسطينيته بعد صدور مذكراته "خارج المكان"، ناهيك عن تهديدات ومضايقات عديدة لحقت به. ومن الأسماء الأخرى البارزة التي قامت اللوبيات الصهيونية بمحاربتها، هي اليهودي الأميركي نورمان فنكيلستاين، والأردني ستيفن سلايطة، وخسر كل منهما وظيفته في الجامعات الأميركية بسبب مواقفهما ودعمهما للقضية الفلسطينية. وازدادت حدة تلك الملاحقات في السنوات الأخيرة وخاصة بعدما بدأ دعم حركة المقاطعة في الولايات المتحدة يزداد بين الشباب، بمن فيهم اليهود الأميركان.
ونهاية الأسبوع، استشاطت السلطات الإسرائيلية غضبا، عندما قامت جمعية "صوت يهودي من أجل السلام" بعقد مؤتمر داعم للمقاطعة، وكانت المتحدثة الرئيسية فيه رسمية عودة. وتشكل تلك التيارات اليهودية الأميركية الداعمة لحقوق الفلسطينيين وحركة المقاطعة شوكة بعين الاحتلال واللوبيات المتطرفة في الولايات المتحدة والتي تدعم دولة الاحتلال دون أي نقد. وفي ظل التوتر الشديد والأجواء اليمينية المتطرفة والآخذة بالتصعيد تجاه القضية الفلسطينية على صعيد التشريعات والممارسات لم يبق أمام رسمية عودة، بحسب دفاعها، الكثير من الخيارات غير قبول الصفقة وتجنب دخول السجن مجددا والغرق في عتمته مع مرضها وفي عمرها وهي الآن ابنة 69 عاما.