22 نوفمبر 2024
أميركا إذ تخلع لِثامَ القِدِّيسينَ
إذا كان التهديد بسحق 26 مليون إنسان ليس إرهابا، فما هو الإرهاب؟ هذا ما هدّد به الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كوريا الشمالية، يوم الثلاثاء الماضي، من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة، المنظمة التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لحفظ الأمن والسلم الدوليين! ولكن، لِمَ العجب، فأعضاء كثيرون مؤسسون أساسيون للمنظمة الجديدة، حينها، كانت أيديهم ملطخةً بدماء الملايين من البشر الأبرياء، عبر حربين عالميتين مدمرتين وكارثيتين، وعبر عقود من الغزو و"الاستخراب" وإخضاع الشعوب الضعيفة، بل وحتى السعي إلى إبادة بعضها.
بكل صلافة أعلن ترامب: "الولايات المتحدة لديها كثير من القوة والصبر، لكنها إذا اضطرت للدفاع عن نفسها، أو عن حلفائها، لن يكون أمامها خيار سوى تدمير كوريا الشمالية بالكامل". إذن، هو لم يكن يتحدث عن إسقاط نظام كيم جونغ أون، كما فعل في الماضي، كما أن تهديده الأخطر هذا لم يكن عفويا لم يستشر فيه مستشاريه، بل كان فقرة في خطابٍ مكتوب ألقاه أمام زعماء العالم المجتمعين في نيويورك. المفارقة، في هذا السياق، أن ترامب يرعد ويزبد ضد كوريا الشمالية، وإيران "الدولة المارقة"، محذّرا إياهما من مغبة تطوير أسلحة نووية، في حين أنه لا يترك لهما طريقا لحماية نفسيهما إلا بامتلاك هذا السلاح. وعلى عكس سلفه، باراك
أوباما، ليس ترامب قارئا جيدا للتاريخ، ولا أظنه يعنيه أن يعلم حقائقه، إذا ما حاول أحد تذكيره أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، عام 1945، ما أدى إلى مقتل عشرات آلاف المدنيين الأبرياء. وفي مايو/ أيار 2016، زار الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، هيروشيما التي تلقت الضربة النووية الأولى في العالم. لم يعتذر عن تلك الجريمة البشعة ضد الإنسانية جمعاء، لكنه اعتبر أن على الولايات المتحدة "مسؤولية أخلاقية"، على اعتبار أنها الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي، أن تمنع استعماله مستقبلا. ذلك أوباما الذي حاول أن يتقمص الوجه الناعم للسياسات الأميركية البشعة، أما ترامب فلا يهتم أصلا بتجميل الوجه البشع لسياسات بلاده. يكفيه المال الكثير الذي يصرفه على مستحضرات التجميل التي يصبغ بها بشرته وشعره.
ليس ما سبق محاولة للدفاع عن نظام مجرم واستعبادي كنظام أون، ولكن تهديد نظام شيء، وتهديد شعب مضطهد بأكمله بالإبادة شيء آخر. الغريب أن ترامب يتذمر من تهديدات أون للولايات المتحدة ويعتبر ذلك إرهابا، ولكن إذا ما صدر التهديد عنه وعن الولايات المتحدة فإن ذلك يصبح دفاعا عن النفس! إنها البلطجة نفسها التي تمارسها الولايات المتحدة بحق الدول التي تبادلها العداء، فاستخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية ضد شعبه جريمة حرب، وهي كذلك (مع التأكيد أنها لم تدفع الولايات المتحدة لوضع حد لمأساة الشعب السوري المنكوب)، ولكن إذا ما استخدمتها إسرائيل، واستخدمت أسلحة أخرى محرّمة دوليا، كاليورانيوم المخصب والفوسفور الأبيض، كما فعلت في غزة، غير مرة، وكما فعلت الولايات المتحدة نفسها في العراق، فإن ذلك أمر مشروع ومبرّر. بمعنى آخر، ما يحدّد أن عملا ما إرهاب أم لا، ليس وسيلته أو مدى براءة الضحية، بل المعيار الأساس هنا هو هوية الجاني.
خطاب ترامب في الأمم المتحدة هو تعبير عن الوجه المتوحش للسياسة الخارجية الأميركية،
وكل ما فعله ترامب أنه أماط لثام القِدِّيسينَ الذي حاولت أن تتخفّى وراءه هذه السياسة خلال إدارتي أوباما. يثبت هذا الخطاب، المليء بالتناقضات والمفارقات، من جديد أن المقاربات الإمبريالية الأميركية هي أكبر تهديد للأمن والسلم الدوليين. ولمن لم يقتنع، أحيله إلى خطاب ترامب نفسه في الأمم المتحدة، عندما حدّد "ركائز السلام" الدولي بثلاث: السيادة والأمن والازدهار، قبل أن يعود ويناقض نفسه، ويهدّد بالتدخل في فنزويلا، على أساس أن الوضع فيها "غير مقبول بالمرة ولن نقف مكتوفي الأيدي" حيال أفعال "النظام الاشتراكي" للرئيس نيكولاس مادورو.
أين السيادة المقدسة التي تحدث عنها ترامب في خطابه؟ وأين تأكيداته أن أميركا لا تريد أن تتدخل في خصوصيات الدول الأخرى؟ لاحظ هنا أنك لا تسمع لترامب، ولا للسياسة الخارجية الأميركية، المصابين بالعوار، أي حسيس، عندما يتعلق الأمر بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر وفلسطين المحتلة، لكنهما يتحولان إلى قِدِّيسينَ مُبَشِّرينَ، عندما يتعلق الأمر بمن يناصبهما العداء. أي نفاقٍ هذا، وأي استقرار وسلام ووئام يمكن أن يحلوا في العالم، وهذا ديدن القوة الأعظم؟
بكل صلافة أعلن ترامب: "الولايات المتحدة لديها كثير من القوة والصبر، لكنها إذا اضطرت للدفاع عن نفسها، أو عن حلفائها، لن يكون أمامها خيار سوى تدمير كوريا الشمالية بالكامل". إذن، هو لم يكن يتحدث عن إسقاط نظام كيم جونغ أون، كما فعل في الماضي، كما أن تهديده الأخطر هذا لم يكن عفويا لم يستشر فيه مستشاريه، بل كان فقرة في خطابٍ مكتوب ألقاه أمام زعماء العالم المجتمعين في نيويورك. المفارقة، في هذا السياق، أن ترامب يرعد ويزبد ضد كوريا الشمالية، وإيران "الدولة المارقة"، محذّرا إياهما من مغبة تطوير أسلحة نووية، في حين أنه لا يترك لهما طريقا لحماية نفسيهما إلا بامتلاك هذا السلاح. وعلى عكس سلفه، باراك
ليس ما سبق محاولة للدفاع عن نظام مجرم واستعبادي كنظام أون، ولكن تهديد نظام شيء، وتهديد شعب مضطهد بأكمله بالإبادة شيء آخر. الغريب أن ترامب يتذمر من تهديدات أون للولايات المتحدة ويعتبر ذلك إرهابا، ولكن إذا ما صدر التهديد عنه وعن الولايات المتحدة فإن ذلك يصبح دفاعا عن النفس! إنها البلطجة نفسها التي تمارسها الولايات المتحدة بحق الدول التي تبادلها العداء، فاستخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية ضد شعبه جريمة حرب، وهي كذلك (مع التأكيد أنها لم تدفع الولايات المتحدة لوضع حد لمأساة الشعب السوري المنكوب)، ولكن إذا ما استخدمتها إسرائيل، واستخدمت أسلحة أخرى محرّمة دوليا، كاليورانيوم المخصب والفوسفور الأبيض، كما فعلت في غزة، غير مرة، وكما فعلت الولايات المتحدة نفسها في العراق، فإن ذلك أمر مشروع ومبرّر. بمعنى آخر، ما يحدّد أن عملا ما إرهاب أم لا، ليس وسيلته أو مدى براءة الضحية، بل المعيار الأساس هنا هو هوية الجاني.
خطاب ترامب في الأمم المتحدة هو تعبير عن الوجه المتوحش للسياسة الخارجية الأميركية،
أين السيادة المقدسة التي تحدث عنها ترامب في خطابه؟ وأين تأكيداته أن أميركا لا تريد أن تتدخل في خصوصيات الدول الأخرى؟ لاحظ هنا أنك لا تسمع لترامب، ولا للسياسة الخارجية الأميركية، المصابين بالعوار، أي حسيس، عندما يتعلق الأمر بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر وفلسطين المحتلة، لكنهما يتحولان إلى قِدِّيسينَ مُبَشِّرينَ، عندما يتعلق الأمر بمن يناصبهما العداء. أي نفاقٍ هذا، وأي استقرار وسلام ووئام يمكن أن يحلوا في العالم، وهذا ديدن القوة الأعظم؟