رغم المصاعب الكثيرة التي واجهها في حياته القصيرة، من مرضٍ وفقر مدقع، استطاع أميديو موديلياني (1884 - 1920)، الذي مرّت قبل أيّام ذكرى ميلاده الرابعة والثلاثون بعد المئة، أن يخلق عالماً جميلاً داخل الفن.
وفي المعرض، الذي افتُتح مؤخّراً في "متحف الفن" في مدينة ميلانو الإيطالية، ويستمر حتى الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، محاولةٌ لإعادة بناء ذلك العالم من خلال الصور والموسيقى والإيحاءات، انطلاقاً من السياق الباريسي الذي كان الرسّام والنحّات الإيطالي أحد أبطاله البارزين.
يُحاول فرانشيسكو بولي، القيّم على المعرض، تقديم موديلياني والعالم المحيط به، عبر وسائط بصرية متعدّدة، ليستطيع الزائر، من خلالها، ليس فقط الاطلاع على تأثير فنون حضارات العصر البرونزي والفنون الأفريقية على أعماله، بل، أيضاً، اكتشاف وسبر أعماق شخصية الفنّان والاقتراب من حياته البوهيمية كمهاجر من ليفورنو الإيطالية في أحياء مونمارتر ومونبرناس في أوائل القرن العشرين.
يتضمّن المعرض غرفة تمهيدية أطلق القائمون عليها تسمية "غرفة الكنز"، وتضمّ بعض الروائع البدائية الأفريقية من المجموعة الدائمة لـ "متحف الفن" وثلاث لوحات لـ موديلياني قادمة من "متحف القرن العشرين" في ميلانو، والتي تُتيح للزائر أن يطّلع، في بيئة واحدة، على تلك النماذج الفنية التي شكّلت مصدر إلهام للفنّان، ويُجري مقارنةً مباشرة بينها وبين لوحاته الأصلية.
وفي "الغرفة اللامتناهية"، التي ينتهي إليها مسار المعرض، تظهر بعض أعمال الفنّان الأكثر أهمية، في لعبة من السرد، والتلاشي المستمر، عبر شاشة بانورامية للقصّة الكلاسيكية لحياة الفنّان والسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي أنتج أعماله الفنية ضمنه.
إحدى الروايات التي تُؤكّد أن المفارقات في حياة موديلياني بدأت باكراً، تلك التي تُشير إلى أنه وُلد بينما كان موظّفو الضرائب في منزل والده الإيطالي وأمّه الفرنسية، واللذين كانا على حافة الإفلاس. وبما أن القانون يحظر مصادرة الممتلكات الموضوعة على سرير امرأة في المخاض، فقد أبصر "ديدو"، كما سيلقّبه والداه، النور وسط كومةٍ من الأغراض المكدّسة عليه.
أُصيب الطفل بمرض السلّ في سنواته الأولى. ولأنه كان أصغر أخوته، فقد حاز دائماً على اهتمام الجميع. هكذا، درس في المنزل مع والدته وخالته. لكن الرسم والتصوير سيستأثران مبكّراً على حواسه.
رغم حالته الصحية السيّئة، قرّر الانتقال إلى باريس عام 1906. وعلى غرار العديد من الفنّانين المفلسين، استقرّ في مونمارتر، حيث كان على اتصال مع مشاهير الفنّانين في ذلك الوقت؛ مثل: بيكاسو، وتولوز - لوتريك، ورينوار، وسيزان، وسوتين.
في باريس، عاش حياة تعيسة، ما أجبره على العودة إلى منزل عائلته بين الفينة والأخرى. كان وضعه الاقتصادي محفوفاً بالمخاطر، لدرجة أنه غالباً ما كان يدفع ثمن شرابه مقابل رسم لوحات صغيرة بقلم الرصاص. وسرعان ما جعله مرضه يُفضّل الرسم على النحت بسبب تأثير الغبار على رئتيه.
في الواقع، كان موديلياني قد اقترب أوّلاً من النحت، ونفّذ فوق مواد مختلفة أقنعةً مستوحاة من الفن الأفريقي، أو "الفن الزنجي"، كما كانوا يسمّونه في تلك الحقبة.
فقره وصحّته السيئة لم يمنعاه من التمتّع بحياة حبّ مضطربة ومليئة بالتجاوزات. لا ينبغي أن يُعتقَد أنه كان من النادر لفنّان من ذلك الزمن الإفراط في الشرب أو استخدام بعض المواد المخدّرة، فقد كان أمراً شائعاً آنذاك.
شكّل موديلياني جزءاً من تيار الفنانين الطليعيّين، وممّن كانوا يُسمّون بالفنانين الملعونين. المفارقة أن لقبه "مودي"، المأخوذ من الأحرف الأولى من كنيته، يتّفق صوتياً بشكل تام مع الكلمة الفرنسية "Maudit" التي تعني الملعون.
كانت شخصيته متهوّرة، تخضع لنوبات عنيفة من الغضب؛ ففي إحدى الليالي تشاجر مع أوتريللو، بعد جلسة شربٍ، بسبب اختلافهما حول أيّ منهما يرسم أفضل من الآخر. في صباح اليوم الموالي، عُثر عليهما نائمَين وهما متعانقَين على أحد الأرصفة.
كانت لديه عشيقات عديدات، لكن امرأة حياته هي جان هيبوتيرن، الرسّامة وعارضة الأزياء التي تُلقّب بـ "نْوا دْكوكو"، أي حبّة جوز هند، لجمال وجهها وشعرها البني الطويل. كانت علاقتهما مضطربة لدرجة أن مشاجراتهما الغاضبة اشتهرت في الحي الذي عاشا فيه.
وُلدت لهما ابنة عام 1918، سُمّيت جان هي الأخرى، حيث لم يتعرّف عليها الأب. بعد عامين، مع بدء تحسّن أعماله، تعهّد موديلياني بالزواج من جان التي كانت حاملاً بطفلها الثاني. عاشت معه في باريس وأماكن أخرى، وكانت إلى جانبه لحظة رحيله المفاجئ عام 1920 إثر نوبةٍ من مرض السل. كان في الخامسة والثلاثين من عمره. وفي اليوم الموالي، انتحرت وقد كانت حاملاً في شهرها التاسع.
مثل كثير من الكتّاب والفنانين، لم يحظ موديلياني بالشهرة إلا بعد رحيله. فنّه يتكوّن، بشكل عام، من خطوط بسيطة وناعمة، وشخصياته كلّها كانت عبارة عن بورتريهات وعراة. قدرته الكبيرة على التقاط جوهر الشخصيات التي يرسمها تبدو واضحةً في كلّ لوحاته، وليس من قبيل الصدفة أن العديد من "موديلاته" صرّحن أن رسمهنّ من قِبله كان مثل "خلع ملابس الروح"، وهو التعبير الذي قد يجعلنا نفهم الكثير من حساسية هذا الفنّان.
كثيرون يُميّزون لوحاته من أعناق شخصياتها الطويلة. لكن شخصياته "الجليدية" هي الأفراد الذين يحاول رسمهم، ليس استناداً إلى المظهر فحسب، بل إلى الشخصية الأعمق. والأمر الذي لطالما أدهش من ينظر إلى لوحاته، هو طريقته في تمثيل النظرات. غالباً ما تكون العينان ممدودتين أو داكنتين، أو من دون بؤبؤ. ومع ذلك، لا يمكن النفي بأن شخصياته ليس لديها نظرة. كان ذلك يمثّل لـ أميديو موديلياني وسيلة للاستبطان، وحقيقة "النظر إلى الداخل"، وليس مجرّد النظر إلى الظاهر.