ما زالت الألغام ومخلّفات الحرب جنوب العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها تشكّل خطراً كبيراً يهدّد حياة المدنيين وفرق الإنقاذ الحكومية على حد سواء، بعد مرور أكثر من شهر على تحرير المنطقة، وبدء عودة النازحين إلى بيوتهم. ولا يبدو المواطن فتحي شبيطة قلقاً على بيته في منطقة خلة الفرجان، وقد تضرّرت أجزاء كبيرة منه من جرّاء انفجار لغم مزروع في باحته، بقدر ما هو قلق على بعض جيرانه الذين لم يعودوا حتى الآن.
يقول شبيطة لـ "العربي الجديد" إن "اللغم انفجر أثناء كشف فرق الإنقاذ عن الألغام المزروعة في المنطقة. الحمد لله أن أحداً من أفراد الفرقة لم يصب بأذى". يشار إلى أن فريقاً تركياً يساعد في الكشف عن الألغام. ويوضح شبيطة أنه تواصل منذ اللحظات الأولى مع غالبية جيرانه عبر الهاتف، محذراً إياهم من العودة، مضيفاً أن "ثلاثة منهم لجأوا إلى خارج البلاد، ولم أعد على اتصال بهم. أشعر بالقلق بشأن عودتهم من دون أن أتمكن من تنبيههم".
وأعلنت غرفة عمليات "بركان الغضب" أخيراً عن ارتفاع ضحايا الألغام في جنوب طرابلس ومحطيها إلى 119 مدنياً. وأوضحت أن تسعة وثلاثين شخصاً من المدنيين وعناصر فرق الإنقاذ قتلوا بينهم طفلة، فيما أُصيب ثمانون آخرون من جراء الألغام التي زرعتها مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وأدى أحدث انفجار للغم أرضي في منطقة السدرة جنوب طرابلس إلى إصابة رجل وامرأة، في وقت أعربت البعثة الأممية في ليبيا عن قلقها من استخدام أطراف الصراع عبوات ناسفة "تتعمّد استهداف المدنيين في طرابلس".
وقالت في بيان إنها "قلقة للغاية بسبب تقارير تفيد بمقتل أو إصابة سكان منطقتي عين زارة وصلاح الدين في طرابلس، من جراء انفجار عبوات ناسفة مبتكرة وضعت في منازلهم أو على مقربة منها". وتعدّ مناطق خلة الفرجان وصلاح الدين والسدرة وعين زاره في طرابلس من أكثر المناطق المهددة بسبب الألغام المزروعة في بيوت المدنيين، إذ شهدت مواجهات ضارية بين قوات حكومة الوفاق ومليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وزرعت الأخيرة فيها مئات العبوات الناسفة والألغام قبل انسحابها منها.
إلى ذلك، يقول مدير مدرسة البيان في بن غشير عبد النور بوشعالة، إن قلق شبيطة نتيجة فقدانه الاتصال بجيرانه يؤكد أنّ الخطر ما زال مرتفعاً على الرغم من جهود السلطات الكبيرة للحدّ من هذه المأساة. ويوضح أن الألغام زُرعت في مدرسته بعدما تمركزت فيها مليشيات حفتر لأشهر عدة وحولتها إلى موقع عسكري لتخزين الأسلحة، مشيراً إلى أن المدرسة لن تعود لاستقبال التلاميذ قريباً. ويؤكد لـ "العربي الجديد" أنه على الرغم من خلو المدرسة من أية أضرار في مبناها، إلا أن العثور على ألغام زرعتها مليشيات حفتر بهدف منع قوات الوفاق الوطني من الاستفادة من الذخائر التي تركتها زاد من مخاوف أولياء الأمور، الذين أعلن معظمهم نقل أبنائهم إلى مدارس أخرى.
وما زالت إحصائيات الحكومة والجهات الدولية غير دقيقة، وتقدّر ضحايا الحرب من المدنيين في جنوب طرابلس بـ 400 مدني، إضافة إلى مئات الجرحى. ويؤكّد بوشعالة احتمال ارتفاع الأرقام في حال استمرار خطر الألغام.
الخطر ما زال مرتفعاً على الرغم من جهود السلطات الكبيرة للحدّ من هذه المأساة
إلى ذلك، اضطرت أسرة أحمد الرياني (32 عاماً) إلى الموافقة على بتر قدم ابنها، بسبب انفجار لغم كان مثبتاً بخيوط خلف منزل الأسرة في حي فاطمة الزهراء في عين زاره (جنوب طرابلس). ويقول والد أحمد بلقاسم الرياني لـ "العربي الجديد" إنّه كان برفقة ابنه حين عاد لتفقد منزله خلال الأيام الأولى لتحرير المنطقة. ويوضح أنّه سمع صوت انفجار قوي كان سببه لغماً مثبتاً خلف باب المنزل.
وقرر الأطباء بتر رجل أحمد لكنه ما زال يعاني مضاعفات أخرى من جراء شظايا اللغم، من بينها تشوه في وجهه وكسور في باقي جسده. وهذا حال عشرات آخرين استقبلتهم مستشفى الحوادث في طرابلس. ويوضح الطبيب في المستشفى مصعب فكرون أن الإصابات الناتجة عن انفجار الألغام في المستشفى تعد خطيرة، وذلك بسبب طريقة زراعة الألغام لتستهدف المار عليها أو بقربها بشكل مباشر. ويقول فكرون لـ "العربي الجديد" إنه "بترت أعضاء حالات عدة"، مؤكداً أن جميع المصابين ما زالوا يتلقون العلاج.
من جهته، يؤكد رئيس فريق تفكيك المتفجرات والعبوات الناسفة في جهاز المباحث الجنائية التابع لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق، أحمد بعيو، أن "الخطر ما زال بعيداً عن تقديرات الجهات الدولية على الرغم من كثرة مطالبنا بضرورة وقوف المجتمع الدولي على ما خلفته حرب حفتر وخطرها الذي ما زال قائماً حتى الآن". ويؤكّد لـ "العربي الجديد" أن فريقه يعمل بأقصى طاقاته، مشيراً إلى استمرار العمل لإزالة مخلفات الحرب في منطقة صلاح الدين، لتكون عودة الأهالي آمنة. ويقول إنّ "ما تركته مليشيات حفتر يرقى إلى مستوى جريمة حرب. هناك الألغام الجاهزة والمتطورة والمحلية الصنع"، مشيراً إلى أن حجم الجريمة يتضح من خلال استخدام كل السبل التي تؤدي إلى قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين.
وفي وقت استجابت تركيا لطلبات حكومة الوفاق بشأن مساعدتها في نزع الألغام من خلال إرسال فريق خاص، يلفت بوشعالة إلى أن بيانات الجهات الدولية لا تقدر الخطر كونها ما زالت تتحدث من خلال الأوراق والبيانات. ويسأل: "كيف ستفيدني بعثة التقصي؟".