ألبير كامو الصحافي

02 يوليو 2019

ألبير كامو يقرأ صحيفة في باريس (1/1/1959/فرانس برس)

+ الخط -
قبل نيله جائزة نوبل للآداب، بل قبل أن يكون كاتبا حتى، عمل ألبير كامو قرابة عشرين عاما في الصحافة، لا من أجل تحصيل الرزق فحسب، بل خصوصا بوصفها مجالا يتطلّب شغفا والتزاما وتمرّدا، بمعنى الاعتراض على ما هو إجحاف وظلم وتعدّ على الحقوق. لقد عمل كامو في عدد كبير من الصحف، وترأس تحرير صحيفة "كفاح" (Combat) السرية التي كانت صحيفة المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية، وشارك في صحفٍ جزائرية وفرنسية، كما كتب في أنواع عدة، منها التحقيق والافتتاحية والمقالة النقدية، إلخ. عنه تقول الباحثة ماريا سانتوس سينز، في كتابها الصادر أخيراً "ألبير كامو الصحافي"، إن مهنة الصحافة وفّرت لكامو "كل ما ينشده شابٌّ ملتزم وواضح الرؤية: البحث عن الحقيقة، وتوفير سبل كشف كل ما يُحاك بشكل خفيّ في كواليس السياسة".
وبالفعل، كانت لكامو مقدرات حقيقية، هو الساعي إلى فضح المظالم، والمدرك جيدا لأصوله الاجتماعية التي لم تعدّه لأن يدرس الفلسفة، يعمل في الصحافة، أو يصل لاحقاً إلى ما وصل إليه. ابن جالية الأقدام السوداء من الفرنسيين الذين استقروا في الجزائر. وُلد كامو في وسط فقير من أم أمّية وصمّاء ترمّلت باكراً، فراحت تخدم في البيوت لإعالة أطفالها. ومع ذلك، فإن كتاباته كلّها، الصحافية منها والأدبية، تنضح بنسبة الالتزام نفسها وبرغبة النضال من أجل تغيير العالم، وجعله مكانا أفضل للفقراء والمظلومين والمهمّشين.
والحال أن كامو لم يكن صحافيّاً عادياً، فالتحقيقات التي أجراها والمقالات التي كتبها تركت كبير الأثر في عصرها، وهي ما زالت مثالاً ونموذجاً في النوع، يجري تدريسهما في كليات الصحافة، وتتم العودة إليهما في أكثر من مناسبة. عام 1939، نشر كامو تحقيقاً في خمس حلقات بعنوان "بؤس في منطقة القبائل"، في صحيفة الجزائر الجمهورية، حيث فضح شروط عيش الجزائريين الصعبة والبائسة، وجور الاستعمار الفرنسي في حقهم. كما قام بتغطية الجرائم والقضايا الساخنة، وأحيانا المحاكمات التي كان يكشف خلفياتها السياسية وتعقيداتها الاجتماعية. وفي إحدى افتتاحيات صحيفة "كفاح" العائدة لعام 1946، وصف كامو الجلّادين النازيين كما يلي: "خلال أربعة أعوام، سيّر هؤلاء الموظفون إدارتهم، حيث كانت تفبرك وجوهُ أيتام، ويُطلق الرصاص على رجال في وجوههم، كي لا يتمّ التعرّف إليهم، وتُحشر جثثُ الأطفال بالأقدام، كيفما اتفق، في صناديق صغيرة جداً عليها، يُعذَّب الأخ أمام أخته، تتم قولبة الجبناء، وتُدمَّر الأرواحُ الأبيّة".
لقد خاض كامو الصحافي معارك فكرية وثقافية وسياسية وفلسفية، كان أشهرها ولا ريب سجاله مع فرانسوا مورياك (صحيفة لوفيغارو) عن ضرورة معاقبة المتعاونين مع النازيين أو العفو عنهم، ثم مع جان بول سارتر (مجلة الأزمنة الحديثة)، وهي المعركة الأشهر التي بدأت مع نشر مقال في مجلة سارتر عن كتاب كامو "الرجل المتمرّد"، وفيه أُخِذ عليه شجبه وتنديده بمعسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي، الأمر النادر حدوثه آنذاك في صفوف اليسار. جاء الرد من كامو ضد المجلة التي "تسكت عن كل المآسي التي ترتكبها الاشتراكية الشمولية"، في حين هاجم أتباع سارتر "أخلاقيات الصليب الأحمر".. إلى أن بادر سارتر بالردّ بنفسه، مؤكّداً عدم وجود معسكرات اعتقال، ومحقّراً فلسفة كامو، غامزاً بتعالٍ، هو المتعلّم، إلى "نصف عصامية" خصمه. وبالفعل، ردّ كامو: "أنا لم أتعلّم الحرية في كتب ماركس، صحيح، لكني تعلّمتها في البؤس".
اليوم، يذكر الجميع ألبير كامو، ويستشهدون بأعماله ومقالاته ومواقفه وأقواله، فيما يحضر سارتر في مرحلته الوجودية، أو لاستذكار ما ارتكبه من أخطاء خلال مرحلته الشيوعية. وفي ما يخص العمل الصحافي، يعلم الجميع أن سارتر كان يحتقر هذه المهنة التي قال عنها، لمؤسّسي مجلة لونوفيل أوبسرفاتور: "ضعوا دما وجنسا، فهذا هو ما يعمل فقط"، في حين كان كامو يحبّها ويقدّسها، بدليل اجتماع كل من عملوا معه، إثر موته بحادث سيارة، واستذكارهم إياه، حاضرا في المطبعة، ممازحا الجميع، ساهرا بانتظار تنضيد الجريدة، مراجعا ومصحّحا، ثم محتفلا بانتهاء يوم عمله، في ساعات الفجر الأولى.
دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"