أفراح القمة
لا أدري من الذي التقط رواية نجيب محفوظ من تحت ركام السنوات والإهمال، ليفكّر بتحويلها إلى مسلسلٍ تلفزيوني. لكن، من فعل ذلك لا بد أنه قارئ نهم لكل ما كتبه محفوظ. يتضح ذلك في استفادته من عوالم قصصية وروائية أخرى للروائي الشهير، استعان بها لبلورة فكرة هذه الرواية المعقدة نسبياً. فصحيح أن الأحداث والشخصية الرئيسة مأخوذة من الرواية التي تحمل الاسم نفسه، لكن عناوين بعض الروايات والمجموعات القصصية الأخرى لا تكاد تخطئها عين وفيّة للعوالم المحفوظية، وتطل بعض اللافتات في العمل لتذكّر بها.
في مسلسل "أفراح القبة"، يجد المشاهد نفسه منذ الحلقة الأولى معنياً بالأحداث، بل ومشاركاً فيها أحياناً، ومع كل كشفٍ جديد لسر من الأسرار التي يخشاها أبطال المسرحية، ينقبض قلبه، وهو يتذكّر أخطاءه وخطاياه في الماضي، ويستعد للاعتراف بها في أي مشهدٍ من مشاهد المسلسل ومشاهد الحياة الواقعية.
ينفتح المشهد الأول في الدراما التلفزيونية على طاولة القراءة الجماعية لمسرحيةٍ تستعد إحدى فرق السبعينات المسرحية في مصر لتقديمها على المسرح، ولم تكد تمضي دقائق قليلة على القراءة، حتى يكتشف الجميع أن المسرحية تصوّر الحياة الحقيقية لأعضاء الفرقة خارج المسرح وداخله، وأن المؤلف كتب الشخصيات كما هي في واقعها، بعد أن سلّط الضوء على خباياها، ما جعلها في مواجهةٍ ذاتيةٍ مستمرة، وعلى الرغم من رفض الجميع تقديم المسرحية الفاضحة، يصرّ رئيس الفرقة على تقديمها، مهما كلفه الأمر، ما يضطرّهم، في النهاية، إلى الموافقة، ومواجهة المصائر التالية، وسط أجواء حافلة بالاعترافات والتشكيك المتبادل.
كتب نجيب محفوظ تلك الرواية المغمورة مطلع ثمانينات القرن الماضي، لكن أحداثها تدور في السنوات التالية لنكسة 1967. وعندما يرحل الزعيم جمال عبد الناصر، تكون الأحداث قد قطعت شوطاً لا بأس به، في تساوقٍ دراميٍّ متصاعدٍ مع تصاعد الشعور بالخيبة والخذلان الجماعي، بعد النكسة.
الجميل أن معظم الفنانين المشاركين في هذا العمل فهموا أبعاد شخصياتهم، كما كتبها محفوظ، وبلورتها لاحقاً بذكاء شديد، ورهافة لافتة، السيناريست نشوى زايد. وأشير، هنا، تحديداً إلى إياد نصار ومنى زكي، وجمال سليمان، إلا أن البطل الحقيقي لهذه التحفة التلفزيونية هو المخرج محمد ياسين الذي تعامل مع النص وكأنه "جواهرجي"، حيث اهتم بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ في المسلسل المكتوب بصعوبةٍ اقتربت به إلى مرحلة التعقيد، ففي مشاهد كثيرة، اختلطت الأمور على المشاهد في ما يشاهده من أحداثٍ، يُفترض أنها تجري على خشبة المسرح، فيكتشف أنها في واقع الدراما التلفزيونية، ليضعها لاحقاً في واقعه الحياتي الحقيقي، ما يجعل العمل الذي يعرض على الشاشة بطريقةٍ سينمائيةٍ يظهر بأربعة مستويات للتلقي، تتجسد على صفحات الرواية، ثم على خشبة المسرح، وبعدها على شاشة التلفزيون، وأخيراً في الحياة الحقيقية.. لنا وللشخصيات.
هل ينشد نجيب محفوظ البحث عن الحقيقة، عندما كتب هذه الرواية، وراء كواليس مسرح الحياة؟ لعله.. لكن ما تحقق، في النهاية، حقيقة متعدّدة الأوجه، بتعدّد صناعها من شخصيات المسرحية، وفي هذا إيحاءٌ بصورة كل حقيقةٍ منشودةٍ في هذه الحياة.
يقول في روايته: "عجيب أن يطمح أناسٌ للتحرّر من الحكومة، في حين يرسفون بكل ارتياح في القيود الكامنة في أنفسهم". لكن، من الواضح أن محاولة شخصيات محفوظ التحرّر من القيود الكامنة في أنفسهم هي التي ساهمت بصنع روايةٍ، وتالياً مسلسل وصل بالقارئ والمشاهد إلى "أفراح القمة".. فعلاً.