أعيدوا لنا الكورنيش

16 فبراير 2015
يحب كورنيش بيروت الناس العاديين (حسين بيضون)
+ الخط -

ماذا بقي لنا في هذه المدينة غير كورنيش البحر؟
لم أحب الكورنيش الجديد، لا سيما درابزينه العالي الذي اقتلعت العاصفة قطعة منه مؤخراً. لم أفكر في الفساد أو في الخفّة التي يتعاطى بها المتعهدون مع الأشغال العامة. شعرت بالشماتة مما حدث. أسميت ذلك انتقاماً، وسُعدت بأن العاصفة فعلت ذلك بدرابزين لم أشعر مرّة أنه يشبه المدينة.

مع أن الدرابزين القديم الذي تفتحت عيوننا عليه كان صدئاً في الغالب بسبب مياه البحر، التي تصيبه من حين إلى آخر، لكنّه كان يحمل ميزة فريدة. كان بإمكاننا أن نلقي بأجسادنا وتعبنا وهمومنا عليه، لا أن ننتظر بعضنا البعض لنتناوب الجلوس على مقاعد خشبية باتت غالبيتها محطمة اليوم.
كان الدرابزين القديم يتقبّل ذلك برحابة حديده العتيق. أما الدرابزين الجديد، الذي رأت بلدية بيروت أن تصميمه يناسب المدينة أكثر، على اعتبار أنه أكثر حداثة (وربما أماناً) فلا يشبه الكورنيش الشعبي الذي ظلّ عالقاً في الذاكرة ومعظم ألبومات الصور.

ثم جاءت ديناصورات وقررت أن تبتلع ميناء "الدالية"، أحد الموانئ الأخيرة قرب الكورنيش، فتزرع مكانها مشروعاً سياحياً كبيراً. مشروع لن يكون رواد الكورنيش جزءاً منه. سيتفرّجون عليه من بعيد ويلعنونه، ويتأسفون على المدينة التي تتغيّر، والبحر الذي يصير أبعد.
حتى باعة الكعك والفول المسلوق والترمس مُنعوا من السير بعرباتهم على الكورنيش. مع أن الكعك والفستق والترمس كانت دائماً متعة الأطفال والكبار.
أمشي وأمشي ولا أعدّ خطواتي. مساحة الكيلومترات المحدودة لا تكفي لطرد كل هذه الأفكار العالقة في الرأس. تكثفت الأفكار وانضغطت فوق بعضها البعض، وباتت بحاجة إلى متنفّس لإطلاقها. لا يناسبها إلا الكورنيش كي تتحرّر.

متى ارتفعت هذه الأبنية العملاقة يا الله؟ ما الذي أوصلها إلى الغيوم؟ من يسكنها؟ هل هم أناس حقيقيون؟ هل لهم صور؟ هل يتفرّجون على الكورنيش والبحر من فوق؟ لم أرهم يوماً يفعلون. بالأصل هم لا يخرجون إلى شرفاتهم. فليأخذوا المشهد من فوق، ولنا أن نمشي على الكورنيش ونتفرّج على البحر من تحت.

يحب كورنيش بيروت الناس العاديين، يحب الرياضيين الذين يأتونه في كل الأوقات، يحب الأمهات اللواتي يدفعن عربات الأطفال، يحب الصبيّة المختالة بجسدها الممشوق، يحب السمين الذي يركض كي يذيب الكيلوغرامات الإضافية، يحب العاطلين عن العمل الذين يحرقون ساعات النهار في لعب ورق الشدّة، يحب الصيادين وسلالهم، يحب المراهق الذي هرب مع رفيقته من المدرسة ليسرقا قبلة بريئة... يحب كل هؤلاء.
دعوا الكورنيش وحاله.. لا تعبثوا به أكثر.
دلالات
المساهمون